جماليات صراع المصارف وحزب الله

الجمعة 2016/06/17

يفرز كل مشهد كارثي البعض من الكوميديا السوداء التي تساهم في فتح الباب أمام قراءات تستكشف بعض الأبعاد الخفية الكامنة فيه. ولعل مشهد الصراع بين حزب الله والمصارف اللبنانية الذي انفجرعلى خلفية مسارعة المصارف إلى تطبيق مفاعيل العقوبات الأميركية، وإقفال حسابات عائدة للحزب والمؤسسات التي تدور في فلكه ينطوي على مشهد مغرق في الكوميديا.

ظهر الحزب في هذا الصراع عاريا من أدواته المألوفة والاعتيادية، ففي هذه الحرب لا مجال للنصر، ولا للدخول في لعبة اتهام العدو الإسرائيلي والتكفيريين، دون تحول الخطاب بالكامل إلى خطاب مغرق في كاريكاتيرية مبتذلة.

نجح هذا الصراع في دفع الأمور إلى درجة عالية من الأرضية التي تفترض معالجات منطقية ومادية ومباشرة، لا مجال فيها للصياغات الشعرية أو الغيبية. أُجبر حزب الله على عودة غير مستحبة إلى ميدان السياسة، وهو ميدان كان قد هجره منذ فترة طويلة وبشكل خاص في السنوات الخمس الماضية، لذا لن يكون من المتوقع أن يعاود الدخول إليه متسلحا بمهارات عالية، بل سيدخله مرغما وبلا أدوات مجرّبة.

ليس أدل على ذلك أكثر من امتناع وزرائه في الحكومة عن التصريح حول هذه المسألة تحت عنوان الصوم عن التصريح بمناسبة حلول شهر رمضان. الممتع في هذا المشهد أنه قلب كل الأدوار بوضوح تام، فقد اتخذت العقوبات الأميركية هيئة القدر الإلهي الذي لا يرد، وبدا انتصارها المحتوم في أي مواجهة مع حزب الله ومع أي جهة تقرر استهدافها نوعا من نصر، يحقق عمليا وعلى الأرض ومن خلال الوقائع المجردة كل المحمولات التي كان حزب الله يسميها نصرا إلهيا أو وعدا صادقا.

ارتدت العقوبات الأميركية في نظر حزب الله وفي نظر الجميع في لبنان صفة الغضب الإلهي، وبات حزب الله الذي طالما لجأ إلى منظومة غيبية لتبرير كل ارتكاباته في لبنان، وكأنه ضحية عاجزة أمام هذا الغضب الذي كان ينسب إلى نفسه سابقا القدرة على إنتاجه وتوجيهه كما يشاء.

كانت اللعبة قبل العقوبات الأميركية تقوم على أن تحاول جل الأطراف في لبنان ممارسة السياسة، بما تعنيه من ركون إلى الوقائع والتسويات، والعمل على إدارة الأمور بالتوافق والتفاهم، ويقوم حزب الله بتعطيل كل هذا المسار، والركون إلى خطاب يناقض السياسة ويلغيها، متوسلا في ذلك بالسطوة العسكرية التي اجتهد في منحها طابعا قدريا وإلهيا.

جماليات المشهد المستجد أن حزب الله بات يطالب بالسياسة والتسويات الآن، ما يعني أن كل حمولته الدعائية والتجييشية والأمنية لم تعد مفيدة عمليا، ولم تعد أكثر من تراث صالح للإحالة إلى المتاحف، وما يحال إلى المتاحف يصبح مادة للفرجة وليس للاستعمال.

لم يعد من الممكن مواصلة بيع الجمهور الشيعي خطاب الوعد الصادق والنصر الإلهي الدائم، لأن شبكة المتضررين من العقوبات الأميركية تطال جل الجسم الشيعي الذي أجبر على الدخول في دائرة اقتصاد حزب الله مرغما.

القسم الذي استفاد من سطوة الحزب ليمرر صفقات ويبني ثروات ليس هو القسم الأكبر من الشيعة، ولعل هذا القسم هو الذي يضم الأشخاص الأقل أيديولوجية وتمسكا بالعنوان العقائدي للحزب. جمهور الحزب العقائدي الفعلي يقوم بشكل شبه تام على هؤلاء المتضررين مباشرة من العقوبات والذين لم تشملهم نعم الصفقات والتسهيلات، يضاف إليهم من يعدهم الحزب جمهورا له بالقوة وهم هؤلاء الذين لا يدينون للحزب بالولاء العقائدي فعلا، ولكنهم لا يستطيعون الخروج من أسر قبضته المالية والأمنية والوظيفية.

جمهور الحزب الفعلي إذن هو جمهور المصارف والذين يدورون في فلكها ماليا ومعيشيا في حين أن “الحزب” يتألف من الذين يغدَق عليهم المال النظيف الذي يصل إلى لبنان نقدا، والذي كان الأمين العام لحزب الله يشير إليهم غالبا بوصفهم “الحزب” حين كان يعلن عن عدم وجود أموال للحزب في المصارف اللبنانية.

هناك إذن الحزب الذي لا تطاله العقوبات، والذي تصل الأموال إلى أعضائه نقدا، وهناك جمهور الحزب الذي هو جمهور المصارف، والذي يرتبط جل نشاطه الاقتصادي بها والذي من شأن العقوبات الأميركية أن تتسبب له بأذى فادح. ومن جماليات العقوبات الأميركية أنها أبرزت هذا الفارق بين “الحزب” وبين جمهور الحزب” بوضوح.

كان الأمين العام يختصر الحزب بهؤلاء الذين تصل اليهم الأموال النقدية، ولم يكن يرى ذلك الجمهور الذي يشكل البيئة الحاضنة. لم يكن هذا الجمهور موجودا في نظره أساسا، وكانت مجموعة من الكائنات الشبحية تعمل في خدمة “الحزب”، يمكن لها أن تكون مرئية للحظات وجيزة عندما تتحول إلى جثث عائدة من ميادين القتال التي يزجها فيها في سوريا والعراق.

ما فعلته العقوبات أنها أظهرت الأشباح كلها، وتحولت الكائنات الشبحية التي تعمل في خدمة الحزب إلى مواطنين وإلى أشخاص مهددين بفقدان موارد رزقهم، وبات عصر ظهورهم هو عصر ظهور جمهور المصارف الذي قد نراه قريبا ينفض عنه شعار الجيش، والشعب، والمقاومة لينتج ثلاثية جديدة هي ثلاثية العيش والمصارف والمواطنة.

كاتب من لبنان

7