جلال علوان المسافر بين مكانين

نادرا ما يقف الفنانون في مناطق حرجة مضطرين لا بسبب قلقهم بل لأنهم يريدون أن يتفوقوا على ما تعلموه.
هناك استعداد داخلي لديهم لأن يصدموا أنفسهم بما لا يتوقعونه. أشبه بأن يكون الفنان هو الآخر الذي لا يرغب في أن يكون ظلا. حين درس جلال علوان الخزف أدرك أنه لن يكون خزافا بالرغم من إعجابه بالفنان إسماعيل فتاح الذي درسه مادة النحت الفخاري.
هل كان يرغب في أن يكون نحاتا؟ ذلك السؤال الذي كان عليه أن يعالجه متأخرا.
غير أن الهواجس التي سكنته منذ أن أنهى دراسته الأكاديمية كانت تبعده عن الحرفة. كان خياله قد أخرج حرفته من مكانها الواقعي ليتجوّل بها في أماكن هي مزيج من الصور والأفكار بحيث صارت الصور تتشظّى كما لو أنها أفكار وفي المقابل فإن الأفكار حظيت بنعمة أن ترى مفرداتها مجسدة في المرآة.
على عجلة من أمره أصبح علوان فنانا مفهوميا. صار صانع أفلام وبدا كما لو أنه مستعد للعب دور رائد لا يرغب في أن يكونه.
وبعكس الأحلام التي سكنته لكي يكون تجريديا من خلال الخزف فقد كان علوان حزينا إلى الدرجة التي دفعته إلى أن يحتج بغربته. لم يكن ليغيّر ميوله لو أنه سقط في بئر مهجورة. هي المكان الذي امتزج فيه الزمن الضائع بشعوره بأنه سيبقى غريبا عبر سنين حياته.
يومها اكتشف أن في إمكانه أن يجمع سنوات حياته كلها في سلة واحدة ولا يقيم في لحظة بعينها. لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل. زمن خاص تشتبك فيه الأحلام بالوقائع. سيُحل ذلك الاشتباك عن طريق القبول به باعتباره حياة.
في إطار الغربة الحزينة
ولد في بغداد عام 1960. أنهى دراسة الخزف في كلية الفنون الجميلة ببغداد عام 1988. عام 2012 تخرّج من الأكاديمية الملكية للفنون في هولندا بعد أن درس في قسم الفنون البصرية. أقام أول معارضه الشخصية عام 1995 في هولندا. عام 2000 أقام معرضا شخصيا آخر في بلجيكا. بعده أقام ثلاثة معارض في هولندا.
بدءا من عام 1997 شارك في معارض جماعية توزعت بين لندن ومدن هولندية وبلجيكية عديدة والقاهرة وفرنسا.
يقول علوان عن علاقته بالفن "الفن بالنسبة إليّ هو تعبير عن إدراكي للعالم من حولي. أبحث من خلاله عن حلول شاعرية مباغتة وممتعة متجاوزا حدود المنطق والممكن والمتاح من جهة، وتوظيف مفردة بيئية من جهة أخرى تنبّه إلى أن ما أنتج هو من الواقع وليس من الخيال المفرط أو من المجهول".
كما لو أنه يودّ لو أن علاقته بالواقع لا تنقطع عن طريق الفن أو بسببه حين يصر على أن كل المفردات الواقعية التي يستعملها هي مفردات مستعارة من الواقع. ولكن ذلك لا ينفي أن التفكير في الفن لدى الفنان يصفي الواقع من شوائبه ويجعل منه شيئا آخر لا يتطابق مع الواقع بطريقة حرفية.
سيكون علينا دائما أن نعود إلى الموضوع الأساس الذي يعالجه علوان في فنه لنفهم السياق الفلسفي الذي ينتمي إليه العالم الذي تتشكل تجربة الفنان من مواده.
يتوزع ذلك الموضوع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. في التجربة الذاتية هناك بعد حياتي شخصي تدعمه فكرة أن يكون المرء مهاجرا من غير أن يتآلف مع الهجرة وهو ما يضعه على تماس مباشر مع الحنين إلى ماضيه الذي غادره من غير رجعة.
التوزع بين مفردات الغربة
وفي التجربة الموضوعية وهي لا تخص الآخرين وحدهم بل وأيضا البيئة التي صارت حاضنة للتشظّي وتلاسن الأفكار المختلفة، يكمل علوان رسم خارطة الشتات القائمة بين عالمين غير مكتملين ويظلان يتحركان وهما في حالة صدام يومي.
وبذلك يكون الواقع الذي يلامسه علوان في أعماله هو واقع ناقص ومؤجل ولا يأمل أن يصل إلى صورته. واقع هو مجرد فكرة يكمن العثور عليها في صورة وهمية فقط.
هل يغرف علوان مواده من بئر مهجورة؟ يستلهم الفنان الخسائر والفقدان والصدمات والنبذ والإهمال وكل ما له علاقة بالغريب الذي انقطع عن جذوره من غير أن يعثر على جنته الموعودة. وحين يُقال عنه إنه نحات فإن ذلك يعبر عن واقع التقنية وليس عن حقيقة الرؤية. تتحقق ثنائية الفراغ والكتلة وهي شرط كل عمل نحتي في أعمال علوان بشكل كامل. لكن الفنان يضفي على تلك العلاقة بعدا جديدا لا ينتمي إلى النحت بل هو من توابع الفنون المعاصرة وبالأخص فن المفاهيم.
علاقة علوان بالواقع لا تنقطع عن طريق الفن أو بسببه، فهو يصر على أن كل المفردات الواقعية التي يستعملها هي مفردات مستعارة من الواقع
علوان فنان مفاهيم وإن طغى على أعماله طابع النحت المدور. تطرح أعماله أسئلة أكثر مما تعنى بتقديم مبادرات جمالية قد لا تنتمي بالضرورة إليه غير أنها تساهم في تلطيف الرؤية وإراحة العين.
كل عمل من أعماله ينطوي على واحدة من مفردات الغربة. ذلك العالم الذي يستشعره الكثيرون عن بعد من غير أن يعيشوا صدماته التي هي ليست ظاهرة ويعيشها الفرد من غير أن يتمكن من أسرها في إطار اللغة.
يميل علوان إلى اللغة البيضاء التي يمكن أن تحل محل كل لغة أو أن تكون وسيطا بين اللغات كما تفعل بين المرء ونفسه. أعمال علوان خالية من الثرثرة. لذلك فإن كل حكاية مرتجلة عن الغربة وهي عالم مليء بالحكايات الحزينة تنزلق على سطوح تماثيله التي لو ترك الأمر له لما لونها.
إنه يراها مكتملة ببياضها. وهو بياض يعبر عن كمال اللغة التي صارت تصفي نفسها بنفسها من غير حاجة إلى الدخول إلى مختبر لغوي. لقد قيل كل شيء عن الهجرة لكن شيئا مما قيل لا يمكن أن يعبر عن حجم الفقدان الذي يعيشه الغريب الذي يعرف أن عليه أن يحلق من أجل أن يرى الأرض السابقة والأرض الحالية اللتين لم يعد يشعر بالانتماء إليهما.
محنة اللامنتمي
يقدم خلاصات الشخصية التي يقدمها اللامنتمي باعتبارها طوق نجاة لرجل يتذكر من غير أن يكون متأكدا أن ذاكرته ستخترق الزمن لتجمع بين مختلف الأمكنة التي عاش فيها وهو على قيد الاستفهام الوجودي. لا يقدم في أعماله طوق نجاة لمَن يراها بقدر ما يجعل منه شريكا في المحنة. محنة المضي قدما في السؤال الذي لا جواب عليه.
يليق بعلوان أن يكون نموذجا للفنان الذي هو شاهد عصره، بمعنى امتزاج التجربة الشخصية بالبعد الموضوعي الذي صار عنوانا لزمن الهجرة بحثا عن الحرية وقبلها الأمان.
ثنائية الفراغ والكتلة تتحقق في أعمال علوان بشكل كامل. لكنه يضفي على تلك العلاقة بعدا جديدا لا ينتمي إلى النحت بل هو من توابع الفنون المعاصرة وبالأخص فن المفاهيم
غير أنه يريد أن ينفرد بنوع واحد من أولئك البشر. الإنسان المفكر المثقل بعذابات الملايين. لا تعنيه التفاصيل الصغيرة التي تتكون منها حيوات الناس العاديين ممن عبروا الفضاءات والبحار من أجل أن يجدوا أنفسهم غرباء في مدن ستكون بالنسبة إليهم آخر الأرض.
"هل سنكون هناك؟" سؤال تصعب الإجابة عليه من قبل عامة المهاجرين. إلا أن علوان يواجه إلى إنسان يثق بمزاجه الذي هو التجسيد الأمثل للانتماء إلى عصر الهجرة. المشكلة في ذلك الـ"هناك" الذي يظل يتحرك بفكرته بين مكانين. مكان غائب وآخر لا يمكن التحقق منه.

علوان يبحث من خلال أعماله عن حلول شاعرية مباغتة وممتعة متجاوزا حدود المنطق