جذور الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي

القدس - صوّرت الحركة الوطنية الفلسطينية طوال تاريخها المضطرب حتى أكثر هزائمها سحقا انتصارات. وتعدّ هذه نتيجة النهج الوحشي الذي أنكِرت خلاله الهوية الفلسطينية بعد نكبة 1948. ولا يرى المؤرخ جان بيير فيليو وجوب اعتبار القضية الفلسطينية خاسرة، بسبب التصميم القوي الذي يتمسك به شعبها على الاحتفاظ بجذوره وعلى التكافؤ الديمغرافي بين اليهود والعرب في الأراضي الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن.
ووقعت هذه الأراضي، الفلسطينية تاريخيا، على مدى القرن الماضي ببطء وبلا هوادة تحت سيطرة دولة عبرية لم تترك سوى بعض الأراضي لسكانها السابقين. وتمكنت من ذلك عبر سياسة قاسية من الحقائق التي سبقت تأسيس إسرائيل في 1948. وتنقسم الأراضي الفلسطينية اليوم؛ حيث تدير منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) الضفة الغربية بينما تدير حركة المقاومة الإسلامية (حماس) غزة.
ونجح ألفا جندي من كتائب القسام في اختراق دفاعات إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وقُتل أكبر عدد من اليهود في يوم واحد منذ الحرب العالمية الثانية. واستغرقت قوات الدفاع الإسرائيلية ساعات طويلة للرد. ووصف فيليو كيف شهدت هذه الفترة الدماء والتعذيب والنهب. ولم يُعلم جناح حماس العسكري قيادة الحركة السياسية بنواياه. وفاجأ قوات الدفاع وقوات الأمن الإسرائيلية. وكما يحدث في الكثير من الأحيان عبر التاريخ، انتهى التقليل من قوة العدو بمأساة.
ولا تزال حماس تحتجز 101 رهينة بعد مرور حوالي خمسة أشهر، عقب مقتل 29 ألف شخص وإصابة 69 ألفا في غزة (معظمهم من النساء والأطفال). ويستمر تدمير غزة لأن الولايات المتحدة، التي تنفرد بالوسائل القادرة على وقف الهجوم الإسرائيلي، لا تزال غير راغبة في وضع حد للأمر.
وبغض النظر عن الدور الدبلوماسي القطري المحوري في إطلاق سراح عدد معين من الرهائن، تبقى الدول العربية عاجزة عن وقف ارتفاع عدد القتلى. والكثير من هذه الأنظمة ليست صديقة لحماس. وانجرت أوروبا النائمة إلى خسارة دورها في الشرق الأوسط. وهي مشلولة بسبب الانقسامات بين دولها الكبرى والافتقار إلى تعاطف الكثير من أبناء شعبها (إن لم يكن جله) مع ما يعانيه الفلسطينيون منذ 1948.
◙ بغض النظر عن الدور الدبلوماسي القطري في إطلاق سراح عدد معين من الرهائن، تبقى الدول العربية عاجزة عن وقف ارتفاع عدد القتلى
ودعم الاتحاد الأوروبي إسرائيل في وقت مبكر. ولا يحظى قادته الوطنيون اليوم بأي احترام لدى القادة الإسرائيليين. ومن جهة أخرى، تبدو إيران غير راغبة في الانجرار إلى صراع إقليمي أوسع بينما يواصل وكلاؤها في لبنان واليمن إشعال النيران المحلية.
ويعيد المؤرخ والعالم السياسي جان بيير فيليو إحياء التاريخ الطويل الذي يكمن وراء هذه النتيجة المأساوية بتفاصيل دقيقة، في كتاب يلخص فيه الوضع الذي نجد أنفسنا فيه اليوم. وعنونه “كيف فُقدت فلسطين ولماذا لم تنتصر إسرائيل”. وحدد فيه ثلاثة أسباب رئيسية من الجانبين، لتفسير كيفية وصولنا إلى المأزق الذي نشهده اليوم.
ويرى بعض القراء أن تحليله الأكثر إثارة للمفاجأة يرتبط بوزن الأفكار الأخروية التي مرت عبر مجموعات مهمة بين البروتستانت، بدءا من إنجلترا في أوائل القرن الـ17، والتي كانت مقتنعة بأن صهيون ستولد من جديد بمجرد عودة اليهود إلى تلك الأراضي. وانتقلت هذه الأفكار إلى اليهود في القرن الـ19 لكنها تعززت مع وعد بلفور في 1918 وتأثير الأصولية المسيحية الكبير في السياسة الأميركية الحديثة.
ويرى فيليو أن الإيفانجيلية في الولايات المتحدة تحظى بأهمية أكبر من الضغط اليهودي. ويبرز ثقلها بين أولئك الذين يصوتون لدونالد ترامب أكثر من أولئك الذين يدعمون جو بايدن. ولا تزال جذور الصهيونية في المسيحية غير معروفة للعديد من المراقبين الذين قد يفاجأون بسماع جيري فالويل يقول إن النبي محمد "كان إرهابيا"، وبات روبرتسون يعلن كون "المسلمين أسوأ من النازيين". ويعدّ بذلك الكتاب المقدس الحزام الأمني الحقيقي لإسرائيل.
وحدد المؤلف القوة الثانية لإسرائيل في تعددية سياساتها منذ أن بدأ اليهود في العودة إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى حين كانت لا تزال جزءا من الدولة العثمانية. وكان الصدام الداخلي الشرس، والقتل في بعض الأحيان، شائعا بين المنظمات اليهودية. لكن النتيجة كانت دائما انتصار المتشددين على أولئك الأكثر ميلا إلى المصالحة مع الفلسطينيين.
وقتل متعصب ديني رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين الذي حاول الانخراط في عملية السلام. ونشهد اليوم بعد جيل من ذلك شخصية بنيامين نتنياهو. ويدمر هذا السباق إلى الخط الأكثر تشددا أي أمل في السلام، بينما يوصف أولئك الذين يحاولون انتقاد إسرائيل بأنهم معادون للسامية أو يهودا يكرهون أنفسهم إذا كانوا من أتباع هذا الدين.
ويكمن السبب الثالث في المستوطنين اليهود، و(بعد 1948) الإسرائيليين، الذين كانوا يخلقون واقعا لا يمكن عكسه على الأرض. وتسبب ذلك في تقليص مساحة أراضي الفلسطينيين وتهميش الأصوات الداعية إلى التسوية في إسرائيل والغرب.
ووضع فيليو ثلاثة عوامل تفسّر مصير الفلسطينيين المأساوي. يكمن العامل الأول في الانقسامات المتعددة والمريرة في السياسة الفلسطينية، من الخلاف بين العائلتين الرائدتين في القدس، الحسيني والنشاشيبي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعد 1945، إلى الزلات المريرة التي عانتها الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي هذا الإطار تضعف إراقة الدماء هذا الجانب. وتخلق الخصومة الحالية بين فتح وحماس وضعا قد يناسب المصلحة السياسية لأفراد أو فئات ولكنها ليست في مصلحة معظم الفلسطينيين ومستقبلهم.
ويسمي فيليو العامل الثاني "الوهم العربي"، أي فكرة أن الأنظمة العربية تهتم حقا بمصير الفلسطينيين،لأن هذا ليس صحيحا حتى لو تعاطف المواطن العادي في القاهرة أو الجزائر العاصمة مع ما يجري.
◙ الصهيونية فشلت في منح اليهود الأمن الذي كانوا يتوقون إليه، ولن ينالوا مبتغاهم بإجبار الفلسطينيين على العيش في الجحيم
واستغلت الأنظمة العربية القضية الفلسطينية في اقتتالها الداخلي الذي كان دمويا في الكثير من الأحيان، بينما كانت بعض الدول صادقة في دعمها للقضية الفلسطينية، وخاصة تونس التي طلب رئيسها الأول الحبيب بورقيبة علنا من منظمة التحرير الفلسطينية الجلوس والتفاوض وجها لوجه مع الإسرائيليين، وهو ما أدانه الرئيس المصري جمال عبدالناصر.
واعتبر المؤلف أن العامل الثالث المؤثر يتجسد في المعايير المزدوجة التي يتبعها ما أسماه بالكائن الأسطوري، أي المجتمع الدولي الذي تدخل بقوة عسكرية هائلة لتحرير الكويت، ولكن صوته انخفض بخصوص فلسطين.
ويعدّ شعور أوروبا بالذنب بعد المحرقة، وخاصة في ألمانيا، مثبطا لانتقاد إسرائيل، وهو ما حرم الاتحاد الأوروبي من صوته في الأزمة الحالية. وخلص فيليو إلى أن سلوك الديمقراطيات الغربية اليوم “غير لائق ويصل إلى حدود الفصام الفكري”؛ فلا يمكن في نفس الوقت إدانة جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا منذ 2022 ثم تبرير القصف العشوائي للمناطق السكنية في غزة بذريعة الدفاع عن النفس.
ويعدّ كتاب "الأرض الموعودة مرتين" لمؤلفه بيير هاسكي مكملا مفيدا لكتاب فيليو الأكاديمي. ويُذكر أن هاسكي هو مراسل دولي سابق محترم لصحيفة ليبراسيون الفرنسية اليومية ومعلق منتظم على فرانس إنتر ووسائل إعلام أخرى. كما يترأس المنظمة غير الحكومية الفرنسية "مراسلون بلا حدود".
وكان مراسلا في إسرائيل وزائرا منتظما إلى المنطقة لمدة أربعين عاما، ما جعل الكتاب مليئا بالمقالات القصيرة الصغيرة والمحادثات مع أشخاص لعبوا دورا مهما في السياسة الإسرائيلية والفلسطينية على جانبي هذا الانقسام المرير. ويوفّر دليلا على ما يمكن اعتباره صراعا يثير العاطفة والمعلومات الخاطئة بجرعات متساوية.
ويعرف المؤلفان البلدان والبلدات التي يتحدثان عنها، ويتمسكان ببعض الأمل في بلوغ نوع من التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفشلت الصهيونية في منح اليهود الأمن الذي كانوا يتوقون إليه، ولن ينالوا مبتغاهم بإجبار الفلسطينيين على العيش في الجحيم. وكما قالت كوريتا كينغز، أرملة مارتن لوثر كينغ، "يترك قانون العين بالعين القديم الجميع عميان".