جبّور الدويهي: لطالما حلمت برواية بوليسية ذات أفق فلسفي

خيط وثيق يظل رابطا بين الكاتب وموطنه مهما غادره إلى أمكنة أخرى، أو باعدت المسافات بينه وبين ذكريات طفولته وأزقة مدينته، ومن ثم يصير الوطن بحاضره وماضيه هاجسا وشاغلا مستمرا للكاتب، لاسيّما حينما يكون ذلك الوطن هو لبنان، الذي قُدّر لكُتّابه ألا تغادرهم فوضى الحروب والصراعات. “العرب” حاورت الروائي اللبناني جبّور الدويهي حول مكونات عالمه الروائي، والفضاءات الجديدة التي يطرقها في روايته الجديدة.
"ملك الهند" عنوان الرواية الصادرة حديثا لجبور الدويهي عن دار الساقي للنشر، وهي رواية تدور أحداثها حول جريمة قتل. يتحدث الدويهي عن دوافع كتابته لهذا النمط قائلا “تعجّ الروايات بالجرائم وأول ما انطلقت في كتابة روايتي الجديدة “ملك الهند” ألحّت عليّ صورة رجل ستيني أنيق يعتمر قبعة قشّ بشريط أحمر ويرتدي بذلة من الكتّان الأبيض يُعثر عليه في أطراف بلدته اللبنانية مصابا بطلق ناري واحد لجهة القلب تحت ظلال شجرة تفّاح الجبل في مكان مطلّ على البحر الأبيض المتوسّط. وكنت دائما استعيد من ذاكرتي صورة رجل يشبهه كان يمرّ أمام منزلنا ونحن صغارا وبيده صحيفة باللغة الإنكليزية يردّ بها عن رأسه أشعة الشمس كنت أخترع له حياة في الأمكنة التي لا بد أن يكون عاش فيها قبل عودته. هكذا “تورطت” في جريمة كان عليّ كشف ملابساتها واحتمالاتها من دون قرار مسبق بكتابة رواية بوليسية، وهي في الواقع ليست كذلك إذا ما نظرنا إلى أسلوبها الكتابي الذي يشبه روايات الخيال الأدبي العامة.
الألغاز البوليسية
بينما تجتذب الروايات ذات الطابع البوليسي قطاعات كبيرة من القراء، يظل التعامل النقدي معها جافا ومُتعاليا، وهو ما يُشكّل تحديّا بالنسبة للكاتب. يوضح الدويهي أن في غالبية أعماله هناك “سرّ” صغير يبقى دفينا يعبّر فيه عن ميله للألغاز البوليسية ويحفز على التساؤل،
لاسيّما مع حبه للروايات البوليسية وخصوصا الأميركية منها، فقد كان يحلم دائما برواية بوليسية لا تنتهي مع الفراغ من قراءتها. أي الوصول إلى المزج بين “الأدبي” والبوليسي.
يرى الدويهي أن إعراض النقاد العرب عن النوع البوليسي يأتي بسبب عدم التقائهم به، وبرأيه، فإن غياب النوع في أدبنا له أسباب، تتعلق بتركيبة مجتمعاتنا وتخلف أجهزة التحقيق الجنائي وغياب الجرائم “الغامضة”، ففي لبنان مثلا تأتي تقارير تقول إنه تم الكشف عن جميع الجرائم التي ارتكبت في العام الماضي واعتقال جميع الفاعلين.
تتوزع أحداث الرواية ما بين لبنان ودول أخرى وتنطلق من حس بوليسي إلا أن الكاتب اختار عنوان الرواية “ملك الهند” رغم عدم تماسه مع الأحداث بشكل واضح، يُبيّن الدويهي أن اختيار العنوان جاء مجانيّا ورغم ورود عبارة “ملك الهند” مرة واحدة في النص فهي لا تعبّر عن أي مضمون للرواية بل تثير فضولا لا يرتوي تماما كما الجريمة التي قد لا تجد حلاّ في مجتمع انكشفت فيه جميع الجرائم وهذا هو التحدي الذي طرحه على نفسه.
أُلفة الكتاب
نشر الدويهي أول عمل إبداعي له بعنوان “الموت بين الأهل نعاس” عام 1990، ومن ثم فقد تأخر في ولوج عالم الكتابة الإبداعية، وعن هذا يقول “وصلت إلى الكتابة الروائية متأخرا، في الأربعين من عمري، بعد أن مارست التدريس وبالتحديد تدريس الأدب والأدب الروائي خصيصا في الجامعة اللبنانية، فخلقت هذه الألفة مع الكتابة الروائية ورحت أجرّب نفسي وكما يقال بالفرنسية إن الشهية تأتي مع الأكل فانتقلت هكذا من كتابة القصص القصيرة إلى الروايات وبتّ عاجزا عن التوقف لأن الكتابة كانت ولا تزال متعة حياتي ولم أعد أتخيّل حياتي وأيامي من دونها”.
بعد طول مراس في الكتابة الإبداعية يرى الدويهي أن الكتابة باتت أكثر سهولة بالنسبة إليه، لاسيّما مع المراس والتقنيات والانتقال من الكتابة بقلم الرصاص إلى لوحة مفاتيح الحاسوب، فهو لا يندم على كتاباته الأولى لأنه بدأ متأخرا، أي ناضجا إلى حدّ ما، ولأنه يمنح نفسه الوقت الكافي للكتابة والمراجعة، بمعدل ثلاث سنوات للرواية الواحدة.
قبل أن يشرع الدويهي في خوض غمار الكتابة الإبداعية، كان قد قطع شوطا في تدريس وممارسة النقد الأدبي، وفي بعض الأحيان قد تفرض صرامة النقد على الكاتب حدودا لا تُناسب جموحه الإبداعي، وهنا يقول الدويهي إنه لم يجد رابطا واضحا أو واعيا بين موقعه كمدرّس للأدب وبالتالي “ناقد” للروايات وامتهانه الكتابة الروائية فهناك، كما خبر، هوة تفصل بين الممارستين وكل كاتب في أي مرحلة من حياته الكتابية يكون مبتدئا ينسى أصول النقد ليغوص في عالم الخيال الروائي الذي لا قاعدة له خارج قدرات صاحبه الذاتية. بالطبع إن الثقافة شرط جوهري للكتابة لأن الرواية نوع اختبر منذ قرون في العالم أجمع وعلينا أن نتطلع قدر الإمكان على الإنجازات المعروفة في هذا المجال.
هاجس الواقع
في رواية “طبع في بيروت” يجعل الدويهي قصة قرن من تطور الطباعة في بيروت موازية للتحولات السياسية والاجتماعية في لبنان، يوضح الدويهي: جئت إلى رواية “طبع في بيروت” من أماكن عدة منها ما ذكرت أي تمرير تاريخ بيروت من خلال مطبعة بمعنى أن ما يجري داخلها يعكس أحداثا وظواهر اجتماعية موجودة خارجها والحقبات السياسية والثقافية التي مرت على العاصمة من العثمانيين إلى الانتداب الفرنسي وصولا إلى الاستقلال فالحرب الأهلية. ومن جهة أخرى كان لا بدّ في هذا السياق من رواية التحولات على مهنة الطباعة والنشر، بين ازدهار وتدهور من اليدوي إلى الرقمي. وكانت لي هواجس عديدة أخرى حول الكتابة وعلاقة الكاتب بنصّه وأحوال الكتاب مع النساء ومع تقييم الآخرين لهم.
يكتب الدويهي من خلال هاجس التاريخ والواقع اللبناني وتحضر الحرب الأهلية اللبنانية بتنويعات مختلفة في أعماله، في الوقت ذاته فإنه يحرص على تجنب التكرار والتشابه بين الأعمال الروائية، وهنا يلفت إلى أن رواياته تدور حول أزمنة وأمكنة يعرفها واختبرها وكونه ينهل من الواقع لا بد أن تكون كتاباته “لبنانية” بمرجعيتها، تصف وتعبّر عن أحوال اللبنانيين ومعيشتهم وكانت له في هذا الإطار رواية تحكي عن بلدته حصرا، “مطر حزيران”، وكانت هي الرواية التي ترجمت إلى أكبر عدد من اللغات الأجنبية وعرفت انتشارا واسعا. فالمحلية في الأدب خرافة يمكن دائما تجاوزها طالما الناس متشابهين بالأهواء والسلوك والموقف من الحب والموت، كل ذلك شرط أن يحملها أسلوب كتابي ولغة منفتحة. كما أنه يتحاشى التكرار بشكل واع ويبحث في كل مرة عن توليفة روائية (تعامل مع الزمن السردي، تسلسل الأحداث، تراتب الشخصيات..) لا تشبه سابقاتها ويمنح نفسه الوقت اللازم لذلك.
ويستطرد: احترم كثيرا واقعية الأحداث والمواضيع وأجري دائما أبحاثا تؤمن المطابقة مع الحقائق التاريخية أو العلمية. “طبع في بيروت” دفعتني إلى أكبر قدر من المراجعات والتدقيق بسبب تنوع مواضيعها (الطباعة، الكتابة، تزوير العملة، تاريخ بيروت وقرأت حوله الكثير من الكتب أولها كتاب سمير قصير…)، أما “مطر حزيران” فلم أضطر لكبير جهد لأنها حكايتي وحكاية أهلي، أعيش فيها وفي ذكراها وأعرف كل ما يتعلق بها عن ظهر قلب.