جان لاكوتير فرنسي وقف بشجاعة مع قضايا العالم

في السادس عشر من شهر يوليو 2015، رحل عن الدنيا الكاتب والصحفي الفرنسي المرموق جان لاكوتير عن سن تناهز 94 عاما، وخلال مسيرته الطوية، حرص على تتبع الأحداث السياسية الكبيرة التي طبعت القرن العشرين، متعرفا على الشخصيات التي طبعت تلك الأحداث وصنعتها، منتصرا لصحافة قوية قادرة على التأثير في التاريخ، وفي الرأي العام الفرنسي والعالمي، موليا اهتماما كبيرا بالعالم العربي وبقضاياه، محاولا دائما وأبدا أن يكون منصفا وعادلا في مواقفه وأحكامه.
وبرحيل لاكوتير تكون فرنسا قد فقدت واحدا من آخر عمالقة الصحافة الحرة، والذي تمكّن من أن يجعل الكتابة الصحفية في مستوى الكتابة الأدبية ذات المستوى النادر والرفيع، عاكسا من خلالها ثقافته الموسوعية الواسعة.
سليل الثقافة المترفة
ولد جان لاكوتير في مدينة بوردو عام 1921 وهو ينتسب إلى أسرة مترفة ومثقفة. وكانت والدته الكاثوليكية الصارمة مغرمة بالقصص التاريخية، وكثيرا ما كانت تتفنن في رواية تلك القصص لابنها الصغير الذي سيتأثر بها في ما بعد ليكون التاريخ بالنسبة إليه منبعا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه أبدا خصوصا عندما يكون الأمر متعلقا بمعرفة العالم، والوضع البشري في أيّ عصر من العصور.
وفي المعهد اليسوعي الذي انتسب إليه، تلقى الفتى جان لاكوتير تعليما صلبا في المجال الأدبي، وقرأ عظماء الكلاسيكيين في العهود اليونانية والرومانية، كما قرأ كبار الشّعراء والكتاب الفرنسيين مظهرا فتنة خاصة بفيكتور هوغو الذي جسّد في جميع أعماله عظمة اللغة الفرنسية، ممجدا المبادئ الإنسانية المتمثلة في الحرية وفي العدالة، والمناهضة للظلم وللاستبداد بجميع أشكاله.
كان في الرابعة عشرة من عمره لمّا استلمت القوى اليسارية المتمثلة في الجبهة الشعبية بزعامة ليون بلوم السلطة في فرنسا. وكان ذلك عام 1936.غير أن عائلته أظهرت معارضتها المطلقة للجبهة المذكورة، أما بالنسبة إليه فقد كان ذلك أول حدث تاريخي كبير في حياته.
ولعل هذا ما حفزه على السعي الى متابعة أحداث كبيرة أخرى مثل الحرب الأهلية الأسبانية، وصعود الفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا. وقبل أن يحصل على شهادة الباكالوريا قرأ أعمال كاتبين سيكون لهما في ما بعد تأثير هام على توجّهاته الفكرية والسياسية. الأول كان بارنانوس الكاتب الكاثوليكي الكبير الذي استعرض فظائع الحرب الأهلية الأسبانية من خلال كتائب فرانكو السوداء. أما الثاني فكان أندريه مالرو الذي استوحى موضوع روايتيه الشهيرتين “الوضع البشري”، و”الطريق الملكي” من رحلاته إلى الصين وإلى الهند الصينية (فيتنام اليوم).
كاتبان يؤثران بشكل كبير على توجهات لاكوتير الفكرية والسياسية. الأول هو بارنانوس الكاتب الكاثوليكي الكبير الذي استعرض فظائع الحرب الأهلية الأسبانية من خلال كتائب فرانكو السوداء. أما الثاني فكان أندريه مالرو الذي استوحى موضوع روايتيه الشهيرتين (الوضع البشري)، و(الطريق الملكي) من رحلاته إلى الصين وإلى الهند الصينية (فيتنام اليوم)
الحرب وأيامها
كان جان لاكوتير طالبا في قسم العلوم السياسية بباريس لما اندلعت الحرب الكونية الثانية. غير أنه ظل لامباليا بما كان يحدث مكتفيا بمتابعة المعارك الكلامية الساخنة التي كانت تشهدها الجامعات الباريسية بين أنصار الجنرال ديغول الذي كان قد دعا الفرنسيين انطلاقا من لندن لمقاومة الاحتلال النازي لبلادهم، وبين الموالين للجنرال بيتان الذي كان قد قبل بالأمر الواقع، والذي سيحاكم في ما بعد بتهمة “الخيانة العظمى”.
ولما احتل النازيون باريس، عاد جان لاكوتير إلى بوردو ليعيش متخفيا عن الأنظار في مزرعة ريفية، لكن في عام 1944، استيقظ ضميره الوطني، فخرج من مخبئه ليلتحق بحركة المقاومة الفرنسية ضمن الفيلق العسكري الذي كان يقوده الجنرال لوكلارك، وكان في ألمانيا لمّا انهارت النازية واستسلم جنرالاتها لمعسكر الحلفاء.
حال انتهاء الحرب الكونية الثانية، وتحديدا في خريف عام 1945، كان جان لاكوتير ضمن الفريق الصحفي الذي رافق الجنرال لوكلارك إلى الهند الصينية، بهدف طرد ما تبقى فيها من الجيش الياباني. لكن عند الوصول إلى هناك عقب رحلة بحرية استمرت 23 يوما، تبين للجنرال لوكلارك أن العدو الذي تتحتم مواجهته ليس الجيش الياباني، وإنما حركة المقاومة الوطنية التي كان يتزعمها هوشي منه، والجنرال نغويان فان جياب، والتي كانت قد أعلنت انطلاقا من هانوي الاستقلال من جانب واحد.
انقسم الفرنسيون المرافقون للجنرال لوكلارك إلى فريقين، فريق معارض لحركة المقاومة الفيتنامية، وفريق مناصر لها، وكان جان لاكوتير من الفريق الثاني. لذلك سارع بالسفر إلى هانوي ليلتقي هناك بكل من الزعيم هوشي منه، والجنرال جياب، ومعهما تحدث طويلا حول العديد من القضايا الساخنة المتعلقة بالخصوص بمستقبل العلاقات بين فرنسا ومنطقة الهند الصينية.
لاكوتير برحيله تكون فرنسا قد فقدت واحدا من آخر عمالقة الصحافة الحرة، والذي تمكن من أن يجعل الكتابة الصحفية في مستوى الكتابة الأدبية ذات المستوى النادر والرفيع، عاكسا من خلالها ثقافته الموسوعية الواسعة
ولعل جان لاكوتير كان يأمل في أن توافق حكومة بلاده التي استلمت السلطة بعد الحرب، على استقلال فيتنام، غير أن رياح التطرف من الجانبين سرعان ما عصفت بكل المقترحات التي كان قد تقدم بها المعتدلون، ومن جديد اشتعلت الحرب بين الجيش الفرنسي وحركة المقاومة الفيتنامية لتستمر ثمانية أعوام، ولتنتهي بهزيمة مهينة لفرنسا في معركة “ديان بيان فو” الشهيرة.
ورغم الفترة القصيرة التي أمضاها في فيتنام، والتي لم تتجاوز الـ15 شهرا، فإن جان لاكوتير يعتير أن تجربته تلك كانت منعرجا حاسما في حياته ، بل هو يعتبرها ولادته الحقيقية حيث قال “كنت آنذاك في الثالثة والعشرين من عمري. وقد ولدت كمواطن بالمعنى الحقيقي في فيتنام في أول شهر نوفمبر 1945. ومنذ ذلك الحين وأنا منصرف لكتابة كتب ومقالات”.
المغرب العربي
بعد عودته من فيتنام، سافر جان لاكوتير إلى المغرب ليكون السكرتير الصحفي للجنرال جوان المعروف بميوله الكولونيالية الرافضة لكل حركة وطنية تطالب باستقلال بلادها، غير أن الصحفي الشاب الذي يكره الوصاية والتملق لم يكن مطيعا للجنرال المذكور. وكان يحب أن يتعرف بطرقه الخاصة على أحوال المغرب، وعلى شخصياته المهمة.
وقد ساعده في ذلك المستشرق الكبير جاك بارك الذي كان يقيم هناك، والمعروف بتعاطفه مع القضايا العربية. ومن المؤكد أن الصحافي الشاب، المتقد حماسا، تعلّم الكثير من العالم المرموق الذي كان مطلعا اطلاعا واسعا على التاريخ العربي، وعلى الحضارة العربية في جميع أطوارها وفصولها المشرقة.
وفي المغرب التقى جان لاكوتير بسيمون فيولان التي كانت تعمل مراسلة للوكالة الفرنسية للأنباء، والتي كانت تدافع بشراسة عن قضايا التحرر في البلدان المولّى عليها. والواضح أن كل واحد منهما وجد عند الآخر ما يستهويه. لذلك فقد تزوجا سريعاً، وفي ما بعد سيقول جان لاكوتير بأن سيمون كانت بمثابة الباخرة ذات الأشرعة التي لا تهاب الرياح والعواصف، والتي ساعدته على أن يسافر عبر العالم دون أن يخشى التقلبات والمخاطر.
باريس يحتلها النازيون فيهرب جان لاكوتير إلى بوردو ليعيش متخفيا عن الأنظار في مزرعة ريفية، حتى العام 1944، حين يستيقظ ضميره الوطني، ليخرج من مخبئه ويلتحق بحركة المقاومة الفرنسية، مقاتلا في ألمانيا حين انهارت النازية واستسلم جنرالاتها لمعسكر الحلفاء
في سبيل استقلال تونس
مطلع الخمسينات من القرن الماضي، عمل جان لاكوتير في كل من جريدة “لو كومبا” التي كان يرأس تحريرها ألبير كامو، وفي جريدة “فرانس سوار”، وفي المقالات التي كان ينشرها في الجريدتين المذكورتين، دأب على الدفاع عن أفكاره اليسارية مناصرا الخطوات التي اتخذها الزعيم الاشتراكي منداس فرانس في سبيل التعجيل باستقلال تونس، وممجدا حكمة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، وتبصره، وقدرته الفائقة على المقاومة رغم المصاعب الشديدة التي واجهها في مسيرته النضالية.
وفي أواسط الخمسينات، التحق جان لاكوتير، الذي أصبح آنذاك يتمتع بشهرة واسعة في عالم الصحافة السياسية، بأسرة تحرير جريدة “لوموند” واسعة الانتشار. وفي مقالاته وتعليقاته وتحقيقاته، ظل وفيا لأفكاره التقدمية واليسارية من دون أن يبالي بالانتقادات الحادة التي كانت توجهها له الأوساط اليمينية المعتدلة والمتطرفة على حد سواء. وهذا ما أظهره خلال إقامته القصيرة في مصر عام 1957، والتي التقى خلالها بالرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وبالعديد من الشخصيات السياسية البارزة في مجال السياسة والفكر.
وفي مطلع الستينات من القرن الماضي، أنشا جان لاكوتير سلسلة تهتم بحياة العديد من زعماء العالم وسيرهم وفيها سيصدر السير التي خصصها لشخصيات كبيرة فرنسية وعالمية من أمثال الجنرال ديغول، وأندريه مالرو، ومنداس فرانس، وجمال عبدالناصر، والحبيب بورقيبة وهوشي منه وآخرين . وفي المقالات التي كان ينشرها في “لوموند”، وفي الأسبوعية “لونوفال أوبسارفتور” التي يديرها صديقه جان دانيال، لم يعد يكتب فقط حول القضايا السياسية، بل كان يحلو له أن يكتب عن الحفلات الموسيقية، وعن المسابقات الرياضية، وعن كبار الشعراء والروائيين من أمثال بالزاك وزولا وفلوبير وغيرهم.
خلال الفترة التي أمضاها في الولايات المتحدة الأميركية ضيفاً على جامعة هارفارد، التقى لاكوتير بالعديد من الشخصيات السياسية، من دون أن يخفي معارضته لحرب فيتنام. وفي السنوات الأخيرة من حياته، اعترف جان لاكوتير بالبعض من الأخطاء التي ارتكبها في حياته، فقد ساند الشيوعيين الفيتناميين من دون أن يلفت النظر إلى جوانبهم السلبية المتمثلة في تمسكهم بالستالينية الصارمة والحديدية. كما هلل للانتصار الذي حققه الخمير الحمر لينتبه في ما بعد إلى الجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب الكمبودي، وكذا فعل مع الثورة الثقافية الصينية التي لم يعاين سلبياتها الخطيرة والفظيعة إلا بعد فوات الأوان.
جان لاكوتير صحفي من هذا العالم، لم يقبل المرور منه، دون أن يكون له مواقف ومواقف مضادة وناقدة، شاهد حيّ على السياسة والثقافة والفكر والحروب.