جاك بيريز الأب الروحي للمصورين الفوتوغرافيين في تونس

المصوّر جاك بيريز ولع بالتصوير الفوتوغرافي وتوثيق كل ما هو تونسي كما برع في اقتناص اللحظة المناسبة دون استعجالها.
الاثنين 2021/10/11
معرض رجل لا يصور إلا بلاده

يعتبر جاك بيريز الأب الروحي للمصورين في تونس؛ فقد أمضى أكثر من خمسين سنة متجولا في ربوع البلاد بين مدنها وقراها وأحيائها الشعبية والراقية يحمل الكاميرا بحثا عن الحقائق الإنسانية من خلال الإيماءات والتعبيرات ونظرات الناس العفوية، فكان شاهدا على جزء كبير من تاريخ تونس الحديث وأيضا على ظهور فن التصوير الفوتوغرافي في البلاد وتطوّره.

تونس- بعد أكثر من خمسين عاما من العمل في هذا المجال لم يفقد المصوّر التونسي جاك بيريز الذي يُعدّ مؤسس التصوير الفوتوغرافي في تونس شيئا من حماسه، مؤكّدا وهو في التسعين من العمر أن “العين هي التي تصنع الصورة وليست الكاميرا”.

ويقام معرض لأعماله تحت عنوان “ذكريات ما قبل النسيان” في أحد قصور المدينة العتيقة في تونس التي تصنّفها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) على أنها من أجمل مدن العالم العربي.

وذكر المصوّر “لم يعلّمني أحد كيف ألتقط الصور، فلا حاجة إلى ذلك. والفضل للعين. ويحلو لي أن أستعرض المشهد كاملا بـ360 درجة وأُظهر ما رأيته. ولم أشعر بانجذاب إلى المجال، فقد حدث الأمر بالفطرة”.

وجاك بيريز هو مصور تونسي من أب تونسي وأم ألمانية، ولد ونشأ في المدينة العتيقة حيث ولع بالتصوير الفوتوغرافي وتوثيق كل ما هو تونسي من ملامح ومعمار وأزياء وحلي وعادات وتقاليد. قال “كنت محظوظا بأن والدتي الألمانية وجدّتي الإيطالية كانتا تقدّمان لي مجلّات مرفقة بصور”.

جاك بيريز لا يزال مندهشا من كيفية تلقّفه لحظة سقوط قطرة من جرّة حامل مياه في صورة
جاك بيريز لا يزال مندهشا من كيفية تلقّفه لحظة سقوط قطرة من جرّة حامل مياه في صورة

وبعد ممارسة التصوير كهواية لمدّة 15 عاما إلى جانب عمله في التدريس، طلب منه ناشر تونسي مهمّ كتاب صور عن سيدي بوسعيد، وهي مدينة معروفة ببيوتها البيضاء والزرقاء تقع في شمال تونس، فانطلقت مسيرته الاحترافية.

واختار لمعرضه هذا “صورا رمزية” قال عنها “يخاطبني الناس وتثير وجوههم اهتمامي وأرغب في معرفة المزيد عنهم”.

بات الناس ميزة أساسية في عمل المصوّر الذي ذاع صيته في العالم، من الولايات المتحدة إلى فرنسا مرورا بإيطاليا.

وقال حميد الدين بوعلي القيّم على هذا المعرض إن “جاك مصوّر يتحلّى بحسّ إنساني. وهو أسّس لجيل بكامله”. ومن الخصائص الأخرى التي تميّز بها جاك بيريز أنه لم يرد يوما تصوير بلد غير بلده، ويقول عن ذلك “لا أشعر بأنني معني سوى بتونس”.

لهذا السبب بالتحديد اختارت جمعية “تونس تجمعنا” تخصيص معرض له. فهذه المؤسسة التي تنشط في مجال الحفاظ على التراث الوطني تسعى لـ”تفكيك السرديات الوطنية” التي تحصر تونس في هوية عربية مسلمة، على حدّ قول رئيستها رابعة بن عاشور.

وتظهر أعمال بيريز أن “البلد يزخر بتعددية مذهلة. ويتلاقى فيه اليهود والمسلمون والعمّال والمتسكّعون وتقاليد الصيد والزواج…”.

هي تونس أزلية و”عابرة للأزمان”. وليست الصور أصلا مؤرّخة ومن الممكن أن تكون قد التقطت اليوم، إلا تلك التي تظهر مهرّجين خلال أمسيات رمضانية.

وقال بيريز “تونس تضمحّل وهذا هو المغزى من التاريخ ولا يمكننا احتباسها”، مؤكدا أنه لا يحنّ إلى أي لحظة خاصة.

وتعكس الصور المعروضة المواضيع التي شكّلت محور أعماله، من سيدي بوسعيد والبحر والصيّادين والحياة اليومية للتونسيين والحرف القديمة  وتلك اليدوية والنساء، مع صورتين بارزتين هما “سيّدة الشبيكة” و”السيّدة والأسد”.

وما هو سرّ هذه الصور العفوية التي “لم تؤخذ يوما من دون موافقة أصحابها أو بالعدسة المقرّبة؟”.

بالنسبة إلى سيّدة الشبيكة ذات الوجه المحفور بالتجاعيد “كان وجهها يثير اهتمامي ولم أكن أعرف إن كان في وسعي أن أقاربها، فاقتربت منها ولم تبدر أي ردّة فعل عنها، واقتربت أكثر وبادرتني بإيماءة شبه معبّرة فالتقطت الصورة”.  ولا يلجأ المصوّر إلى التخطيط بل إلى البديهة، مع الإشارة إلى أن “المصوّرين يتمتّعون بالقدرة على التنبؤ بالخطوة التالية”.

وجاب بيريز البلاد التونسية من شمالها إلى جنوبها، ووثق بعدسته المدن والأرياف والقرى، منها سيدي بوسعيد والملاسين وباب سويقة والقيروان وجربة ودوز وقرقنة ومطماطة وغار الملح والحمامات وقفصة والكاف وغيرها من المناطق التونسية الساحرة.

من تفاصيل الحياة اليومية
من تفاصيل الحياة اليومية

وحافظ على القدرة على الاندهاش التي يتميّز بها الأطفال ولا يزال مندهشا من كيفية تلقّفه لحظة سقوط قطرة من جرّة حامل مياه وتخليدها في صورة.

والمسألة كلّها مسألة “صبر” و”اقتناص اللحظة المناسبة دون استعجالها”، كما هي حال صورة شارع في المدينة العتيقة تحت شمس ساطعة. وبكلّ بساطة “كانت الساعة الواحدة ظهرا في عزّ شهر أغسطس”، وفق ما يحلو له أن يقول.

وتحصّل بيريز على العديد من الألقاب والجوائز، أهمها جائزة تونس الوطنية للفنون والآداب ووسام الاستحقاق الثقافي للجمهورية التونسية ووسام فارس الفنون والآداب من الجمهورية الفرنسية.

تم اقتناء مجموعاته دوليا من قبل مؤسسات مرموقة، مثل اليونسكو ومؤسسة الآغا خان والمكتبة الوطنية الفرنسية ومعهد العالم العربي بباريس والمتحف الوطني الفلسطيني ودار التصوير الأوروبي ووزارة الثقافة الفرنسية.

وبقي جاك بيريز محافظا على تواضعه، ويقول عن ذلك “لا آخذ نفسي على محمل الجدّ ويسعدني أن ألتقط الصور”. وشدّد قائلا “لست الأب ولا النسيب ولا الجدّ بالنسبة إلى التصوير الفوتوغرافي التونسي، أنا مجرّد مصوّر فوتوغرافي في تونس”.

20