جار النبي الحلو: الرواية ذاكرة الواقع والتاريخ

القاهرة - بتدفق سلس يسرد حكاياته عن مدينته التي ولد وعاش فيها، عن حياته وآماله وآلامه؛ فلا يسير طوعًا لأفكار تفرض على الكاتب وتحدّ من طاقته الإبداعية، لا يتوانى في الكتابة عن مدينته غير آبه بالتهم التي قد تُلصق به وبكتاباته أو بأشكال من الكتابة أكثر رواجًا من غيرها، هو الصادق في كتابته الراصد لمجتمعه وبيئته دون أن يقع في فخ المباشرة أو التنظير في أعماله الأدبية.
جار النبي الحلو، أديب وروائي مصري، من مواليد محافظة الغربية (شمال القاهرة) عام 1947، له عدد من الإبداعات القصصية مثل “القبيح والوردة”، “طعم القرنفل”، “طائر فضي”، “قمع الهوى”، فضلًا عن رباعيته الروائية وكتبه للأطفال، والكتابات التلفزيونية للأطفال. مؤخرًا، صدرت له رواية “العجوزان” بعد غياب طويل عن الساحة الروائية.. في هذا الحوار نتحدث معه عن روايته الجديدة ونتطرق إلى جوانب من إبداعه الأدبي.
سيرة عجوزين
في روايته الصادرة مؤخرًا عن دار الهلال بعنوان “العجوزان” يجسد الأديب والروائي المصري جار النبي الحلو علاقة الصداقة الممتدة بين عجوزين متعمقًا في عالمه الخاص الذي يعيش جوانب كثيرة منه، ويقول عن روايته “العجوزان هي العمل الروائي الخامس لي بعد رباعية روائية كتبتها عن مدينتي المحلة الكبرى، وفي العجوزان أتتبع تجربة ذلك العجوز الذي ربما يشبهني في الكثير، هي عن عجوزين صديقين يقضيان حياتهما معًا بتفاصيلها بعدما غاب عنهما الكثير من الأحبة؛ فيعيشان حالة من استدعاء الذكريات القديمة والأصدقاء القدامى، وفـترة الشباب بطـموحها وعنفوانها، ومن ثم هي رصد لحـياة عجوز تجاوز الستين من عـمره بتـفاصيلها الإنـسانية الحـميمية”.
في “العجوزان” ثمة تعرض لأحداث ثورة يناير في مصر وما صاحبها من لجان شعبية تدافع عن المنازل وقت الفوضى والحالات الثورية آنذاك، يقول في روايته “مليون شاب في الميدان! ذات الميدان الذي وقفنا فيه ونحن طلبة.. ذات الميدان الذي مارسنا فيه حب البنات وتبادل المنشورات. ارتديت ملابسي كيفما اتفق. هرولت إلى الشارع.. بين الآلاف. رأيت عيونا أعرفها وأحلاما استيقظت فجأة. رأيت زوجتي وأجدادي وأعمامي وأحفادي وأبي وأمي.. وزملاء السياسة والشبان جميعا يجرون. لم أشعر بآلام ظهري أو ضربات قلبي أو أعراض ضغط الدم اللعين. أخذني في حضنه.. فايز كيف التقينا رغم الحشود! واحتضنني طويلا ثم سألني بغتة: هل تصدق؟!”.
|
وبسؤاله عما إذا كانت الكتابة عن الثورة مخططة قبلًا أم أن طبيعة الرواية اقتضها بشكل ما، يوضح الحلو “بالفعل بعض الفصول كانت شديدة الارتباط بأحداث الثورة المصرية؛ فالبطل ‘رفيق’ كان موجودًا مع اللجان الشعبية ليحمي منزله وشوارعه، وشارك في الثورة، ولكني بدأت في كتابة الرواية قبل حدوث الثورة ثم توقفت فترة واستكملتها بعدها، فأضفت لها تفاعل العجوز مع ما يحدث حوله، وهذه تجربة خاصة بي؛ لأنني كنت مع شباب الثورة وشاركت في المظاهرات ضد حكم الإخوان، ولكن الكتابة لم تكن بنيّة الحديث عن الثورة في الأصل”.
الكتابة للأطفال
كتب جار النبي الحلو العديد من الأعمال الهامة للأطفال، سواء كانت كتبا أو مسلسلات تلفزيونية، ومن أبرز الكتب “محاكمة في حديقة الحيوان” التي نشرت عام 1992، و”ليلة سعيدة يا جدتي” التي نشرت عام 2003، و”الكتكوت ليس كلبًا” المنشورة عام 2003، و”أنا ومراكب أبي” عام 2009، وعلى صعيد الأعمال التلفزيونية كتب “أصيل في أرض النخيل”، و”أصيل في السيرك الكبير”، و”كنز الواحة”، و”طيور صغيرة”، و”ريش الطاووس”وغيرها من الأعمال.
وعن سبب شغفه بالكتابة للأطفال يقول الحلو “الكتابة للطفل من أمتع أنواع الكتابة لمن يمتلك الموهبة؛ فهي أصعب كثيرًا من الكتابة العادية لأنّ الكاتب لا بد أن يمتلك روح وعين الطفل وتكون لديه القدرة على استدعاء ذاكرة الطفولة. من أهمّ ما ساعدني على الكتابة للطفل تلك الحكايات التي كانت ترويها لي جدتي القعيدة وأنا في العاشرة من عمري، فكنت أحاول كتابتها بعد أن أسمعها، كما أنني قرأت في مكتبة أبي كتاب “ألف ليلة وليلة” وغيره، فضلًا عن ذلك النهر أمام منزلنا والذي أدخلني إلى عالم الأحلام والخرافات والأحداث اليومية”.
ويستطرد “الكتابة للطفل من أهم إنجازاتي؛ فأنا لم أحصل على أيّ جائزة إلا في أدب الطفل، ومنها جوائز ذهبية وفضية وبرونزية في مهرجانات القاهرة لسينما الأطفال ومهرجانات الإذاعة والتلفزيون، وجائزة التفوق من الهيئة العامة لقصور الثقافة وغيرها، لذا فذلك النوع من الكتابة يحتاج إلى موهبة وقدرة على إبهاج الأطفال بكل عناصر الكتابة والشكل واللون، ومن ثم فنحن بحاجة لكتّاب أطفال موهوبين لأن للطفل هو المستقبل والوطن القادم”.
|
رباعية روائية
كتب جار النبي الحلو رباعية روائية عن مدينته التي يقطنها “المحلة الكبرى” والتي تقع شمال القاهرة؛ وهي “حلم على نهر” و”حجرة فوق سطح” و “قمر الشتاء” و “عطر قديم”، ففي “حلم على نهر” حديث عن العمال والمهمّشين، وفي “حجرة فوق سطح” تحضر هزيمة 1967 وأفكار اليسار، أما في “قمر الشتاء” و”عطر قديم” فالحديث حول تأثير سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أقرّها الرئيس المصري الراحل أنور السادات على المدينة وسكانها، وعن عالم المدينة الضيق والمحلي الذي لازمه الحلو في جميع أعماله الروائية ولم يغادره حتى الآن يقول “الكتابة تجربة إنسانية في المقام الأول، والمهم أن تنعكس تلك التجربة في الكتابة؛ بالطبع الجغرافيا تنعكس على الشخوص بشكل واضح؛فالكاتب من بيئة ساحلية يكتب بشكل مختلف عن الآخر من بيئة صحراوية وهكذا، لكن الكتابة بنت التجربة؛ فأنا لم أغادر مدينتي المحلة الكبرى حتى الآن سوى لزيارات ولقاءات في القاهرة لأعود لها من جديد، هذه المدينة أعطتني كنوزها وأسرارها وهي ميزة لا تتوافر لدى الكثيرين، كما أن المحلية في العمل الأدبي ليست عيبًا؛ فأعمال تشيكوف كانت كلها تدور في مدن صغيرة، كذلك كل أعمال نجيب محفوظ كانت عن القاهرة فقط، وكذلك الشاعر عبدالرحمن الأبنودي وغيرهم”.
ذاكرة التاريخ
وبسؤاله عن ضرورة مواكبة الرواية للتغيرات المجتمعية بشكل دائم، يجيب الحلو “الرواية لا تستطيع أن تواكب التغيرات لحظة بلحظة مثل فنون أخرى لحظية، لكن الرواية تنظر إلى التاريخ على مسافة بعيدة وتُقدِم حيوات وتجربة مكتملة، ومن ثم فالرواية ليست رد فعل عاطفي وكتابي تجاه ما يحدث في المجتمع، الرواية ذاكرة الوطن والتاريخ؛ تحتشد لتقدّم ما حدث، وقد تحمل في داخلها ما قد سوف يحدث”.وفيما يتعلق بتهميش أدباء الأقاليم ينوّه الحلو بأنه لم يعان من هذا التهميش رغم بعده عن القاهرة وبؤر الإعلام، لافتًا إلى أن الكاتب الجيد يفرض نفسه في أيّ مكان؛ فالكثير من كبار الكتاب غير قاهريين مثل عبدالرحمن الأبنودي وبهاء طاهر وغيرهم، لكن أعمالهم أثبتت نجاحها وبقاءها، ومن ثم فالكاتب الموهوب يفرض نفسه من أعماله؛ فهناك من يسعد بوجود أعمال قيّمة بغض النظر عن مكان كاتبها، وبالتالي فالأزمة كامنة في الكتّاب أنفسهم الذين هم بحاجة لأن يطوروا من أنفسهم.
أزمة قراءة
يوضح جار النبي الحلو أن الوطن العربي يعاني من أزمات قراءة، خاصة مع تدهور الأوضاع السياسية وعدم استقرارها في العديد من البلدان، فانتشار الكتاب بحاجة إلى اهتمام من قبل الدولة في النشر والتوزيع وهو ما لا يحدث في حالات الحرب وعدم الاستقرار الأمني والسياسي، مؤكدًا على أن ظاهرة “البيست سيلر” غير حقيقية؛ فهي من اختراع دور النشر للترويج لأعمال وكتّاب بأعينهم.
|
وعن مدى تأثير تلك الأزمة على إبداع الكاتب، يشير الحلو إلى أنه لا يتأثر بتدني معدلات القراءة الواضحة، فعندما يقابل أحد الشباب ويخبره بأنه قد قرأ له ولو عملًا واحدًا له، فذلك كفيل بالنسبة إليه بأن يشعره بالإنجاز.
شذرات ذاتية
يقول الحلو إنه قد كتب سيرته الذاتية وتجربته في الحياة والكتابة من خلال أعماله وفي كتابه “حكايات جار النبي الحلو”، وبالتالي فهو لا يفكر في كتابة سيرة ذاتية بشكل منفصل، فالكثير من حكاياته وحياته الشخصية متناثرة في الكتابات المختلفة التي رصد فيها انتصاراته وأحلامه وذكرياته، فهو لا يقوم بدور المؤلف وإنما بدور الكاتب.
دور الكتابة
وعن الحالة الثقافية الراهنة والدور الذي يتعين على المثقف الاضطلاع به يقول الحلو “الساحة الثقافية في الوقت الراهن تشهد الكثير من الأسماء المهمة في مجال الثقافة، والكثير من الكتابات المهمة، ولكن الثقافة كسائر القطاعات في الدولة تعاني من الارتباك؛ لذا يجب على المثقفين الوقوف صفًا واحدًا من أجل الوطن، فالمثقف يحتاج إلى وطن مستقر كي يكتب وينتج. أتمنى أن يخرج الوطن العربي من التجربة المريرة التي مر بها كي تقوم الثقافة بدورها التنويري اللازم للتخلص من القهر”.
ويضيف “الدور الأكبر الذي يتعين على المثقف القيام به أن يكتب ويقول رأيه الذي يواجه به القصور والضعف، وأتمنى ألا يغيب عن ذهن المثقف أن يحاول بناء الوطن لا هدمه بتصدير الإحباط والتهميش والكآبة”.
كاتبة من مصر