جائزة ماكس جاكوب تتوج نوري الجراح.. انتصار للنشيد الكوني

شاعر متوسطي بقارب هيليني احترف التحديق في مرحلة منسية.
الأحد 2023/05/14
شاعر أخلص لنفسه وشعبه وقصيدته

قلبت قصيدة النثر تماما مفهوم الشعر لتفتح أرضه وسماءه بلا خرائط. هكذا يشق الشاعر الحديث طريقه بين ذاته والآخر بين الماضي والحاضر. ولعل الشاعر السوري نوري الجراح من أبرز الأسماء التي فتحت آفاق قصيدة النثر العربية على عوالم مختلفة. واحتفاء بتتويجه بجائزة ماكس جاكوب مؤخرا كان لـ”العرب” هذا الملف حول شعر الجراح كما يراه النقاد والفنانون ومن عايشوه عن قرب. 

لندن - قبل أيام، كشف القائمون على “جائزة ماكس جاكوب” الشعرية، في فرنسا، عن فوز نوري الجرّاح بها لهذا العام في فرع الشعر المترجَم، وذلك عن كتابه “ابتسامة النائم”، وهو عبارة عن مختارات شعرية ترجمها أنطوان جوكي إلى الفرنسية (224 صفحة)، وصدرت نهاية العام الماضي في سلسلة “سندباد” لدى منشورات “أكت سود”.

وتتوج جائزة “ماكس جاكوب” الموهبة العالية لنوري الجراح، ولا تعترف به شاعرا فقط، وإنما شاعرا سوريا في زمن صعب، وهو أقل ما يستحقه شاعر لم يتخلف عن توظيف نشاطاته الثقافية وألقه الشعري في رد الاعتبار للشعر بكلاسيكية متحررة ومتجددة، ولم يهمل إنسانية قضيته السورية، التي كانت وما زالت ضلع مواجهاته الأخلاقية في معاركه وخصوماته.

نشيد كوني

خلدون الشمعة: شاعر أيقوني مبتكر لابد أن تعتز به حضارتنا الشعرية
خلدون الشمعة: شاعر أيقوني مبتكر لابد أن تعتز به حضارتنا الشعرية

يقول الفنان السوري فارس الحلو “الصديق نوري الجراح هو أحد الناجين من المعتقلات السورية والإسرائيلية في آن. في ثمانينات القرن الماضي انخرط نوري في نضالات القضية الفلسطينية، وحضر الحرب الأهلية البغيضة في لبنان، وشهد مجزرة صبرا وشاتيلا، عرف السياسيين اللعوبين عن قرب، وفي مارس 2011 ثار مع قيامة شعبه ضد مفاهيم الاستبداد وحضر النكبة السورية بكل مشاهدها المؤلمة، فتكونت لديه ذخيرة معرفية هائلة، استطاعت ملكاته وتقنياته من تطويعها والتعبير عنها بعذوبة شعرية فائقة”.

ويضيف “‘لم يعد وجهي غريبا/ في الموانئ/ والمطارات/ وأبواب العبور/ فأنا حكاية كل يوم./ وأنا نداء الزورق المكسور/ للموجة العمياء’. مازلت أذكر حميته الشعرية حين عرضت عليه المشاركة في مشروع إقامة نصب برونزي لرأس المعري، فكان مثالا في كرم العطاء والحماسة ونكران الذات. أنا فخور بحصوله على جائزة فرنسية مرموقة للشعر المترجم”.

يقول الكاتب المغربي عبدالقادر الجموسي، الذي وضع قبل سنوات دراسة وافية في شعر الجراح صدرت في كتاب “ما الذي يحدث في حدائق هاملت”، إن “نوري الجراح صوت متفرد في سماء الشعرية العربية المعاصرة. يتميز شعره بحوارية عالية مع العالم، وتلاقح خصيب للأصوات وأجناس التعبير الشعرية، المتراوحة بين الغنائية العذبة والتعددية الدرامية والنبر الملحمي العالي. ينتسج في نصه الشاغل الذاتي بالسؤال الكوني في جديلة هارمونية محكمة؛ تضع المأساة الإنسانية في صميم السؤال الشعري المتجدد باستمرار”.

فارس الحلو: الشاعر استطاع بملكاته وتقنياته التعبير عن النكبة السورية
فارس الحلو: الشاعر استطاع بملكاته وتقنياته التعبير عن النكبة السورية

ويضيف “تدعو قصيدة الجراح قارئها إلى الانخراط في لعبة الخلق ولذة الكشف الشعري، بحيث لا تتحقق القصيدة لديه، كملتقى للعلامات، إلا بالقراءة المتعددة التي تكفل للنص انشراحه وتحليقه في أفق إنساني بأجنحة غير مسبقة الصنع وطاقة قير قابلة للاستنفاد”.

يقول النحات السوري عاصم الباشا “أن يصل التقدير إنسانا يستحقه أمر غير مدهش، أراه بمثابة وفاء لمسرى حياته المنفية والثائرة والمستغرقة بالحب عبر أداته الشعرية”.

ويتابع “كانت لي سعادة مرافقة ومعايشة نوري الجراح بصورة متقطعة ومتباعدة أحيانا وقد ربطنا الود والاحترام سريعا ومتينا. ولأن مهنتي تعتمد على محاولة الرؤية وعدم الاعتماد على المشاهدة فسرعان ما رأيت أنه يعيش على مستويين، المستوى السطحي من اللجة هو المتعلق بالأمور المعاشية من قبيل المرور على البقالية وركوب الحافلة وتأمل ما حوله واختياره الملابس القاتمة وغيره.. بينما ذاته تعمل في أغوار ذلك البحر بلا انقطاع حائكا شعره من الألم والتمرد والحب، فتعجب كيف ومتى يدون نوري خلجاته. لم أره يفعل لكنني أعرف أنه لا ينقطع عن الغوص فيها”.

ويؤكد الباشا أن تقديرا رفيعا كجائزة ماكس جاكوب أمر يستحقه من ثابر، بأحاسيسه وفكره، على ذلك الدرب الطويل المتعب.

عبدالقادر الجموسي: قصيدة الجراح تدعو قارئها إلى الانخراط في لعبة الخلق
عبدالقادر الجموسي: قصيدة الجراح تدعو قارئها إلى الانخراط في لعبة الخلق

يذكر الروائي التونسي أبوبكر العيادي أنه في رسالة إلى جان كوكتو بتاريخ 4 يوليو 1922، كتب الشاعر والروائي والرسام الفرنسي ماكس جاكوب (1876 – 1944) يقول “عندما أموت، سأؤسس أكاديمية تمجد الأعمال التي لا تصنع فيها، وتعبر عن تجارب معيشة، وأفكار جلية، وتحمل بصمة أصابع قوية، وتصنع للبشر تماثيل. سوف تنبذ الكلمات المنمقة، تلك التي لا غاية من ورائها سوى تضخيم القاموس”.

ويضيف “أستحضر تلك الكلمات بعد تتويج الشاعر نوري الجراح بجائزة ماكس جاكوب، ففيها مما ينطبق على شاعرنا أوجه كثيرة، فهو ينبذ التزويق والتنميق على حساب الجوهر، ويرفض أن تخضع القصيدة لطاحونة الشيء المعتاد، وتظل محصورة في قالب ثابت تتبدل عناصره الداخلية دون أن تغادر الإطار المألوف الذي تتناسل في إطاره معظم القصائد العربية الراهنة، ويفضل أن تكون القصيدة شرفته على العالم ونشيده الكوني بلغة تصيب المعنى دون تكلف”.

ويتابع “ينطلق الجراح من تجربته الشخصية ومعاناته كمنفي من بلاده، ومما حاق بشعبها من ويلات، ليصوغ ملاحم تراجيدية عصرية عن التغريبة السورية، مدارها البحر المتوسط والسواحل الحافة، وجذورها إغريقية لاتينية عربية، تسمو بالحاضر المأساوي إلى مصاف الملاحم الميثولوجية، لتقاوم الظلم، وتحارب النسيان، وتخلق على أنقاض المدن المقوضة مدينة من أصوات تنطق بلسان واحد، هو لسان إنسان كوني، في معاناته، وتوقه إلى عالم أكثر عدلا وحرية وإنسانية. أليس هو القائل: قصيدتي مدينة أصوات في عالم تهدمت مدنه؟”.

يكتب الفنان السوري أسعد فرزات “كوننا جيلا ننتمي إلى مناخ واحد من القمع السياسي والاستبداد الفكري كنا مجموعة طلاب بكلية الفنون نهتم بالشعر، تعرفنا لأول مرة على نوري الجراح من خلال مجموعته الشعرية المبكرة ‘الصبي’ وكان لها أثر وصدى كبير وقتها على المهتمين بالشعر والثقافة لما تحمله من لغة شعرية متجددة ونقاشات حولها. بعدها تابعنا نوري من خلال ما كان يقدمه بمنفاه سواء ببيروت أو قبرص من خلال الدوريات الشعرية التي كانت ممنوعة آنذاك وتصلنا سرا منها الناقد وغيرها”.

ويضيف “لم أتوقع يوما أن يجمعنا مشروع بصري مشترك من خلال مساحة نكبة كبيرة ومنفى مشترك. كنت وقتها بحالة مخاض ذهني أبحث عن مشروع يترجم بعض أحاسيسي تجاه هذه المأساة. إلا أن هاتف نوري وقتها وهذا كان لقاء صوتيا لأول مرة بمثابة المنقذ حين عرض علي مشروع الكلمة واللون من خلال قصيدته الخروج من شرق المتوسط، هذا النص التراجيدي المؤلم حقيقة المليء بالصور التشكيلية التي استطاع أن يشكلها نوري من خلال الكلمة والتي منحتني أفقا جديدا بعملي من خلال هذه الصور الكثيفة التي كانت تتراكم بذاكرتي وأنا أعمل فوق السطح الأبيض. هذا المشروع الذي أثمر معرضا لي بصالة أوربيا تزامنا مع احتفاء باريس بتجربة نوري الشعرية وترجمة قصيدته الملحمية”.

تجربة شعرية أصيلة

عاصم الباشا: الجائزة يستحقها الشاعر الذي ثابر بأحاسيسه وفكره على درب متعب
عاصم الباشا: الجائزة يستحقها الشاعر الذي ثابر بأحاسيسه وفكره على درب متعب

يقول الناقد والأكاديمي التونسي أيمن باي “جمعتني مع الشاعر السوري نوري الجراح صداقة عميقة، امتدت لأكثر من خمس سنوات، بدأت مع بحثي الأكاديمي حول تجربته الشعرية، وقد نشر بالمؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2018 بعنوان ‘النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح’ وهو أول دراسة علمية معمقة حول تجربة الشاعر، ثم بعد ذلك، تتالت كتاباتي في مجلة الجديد التي يترأس تحريرها نوري الجراح فتواصلت الصداقة، نقية، وتعمقت وشائج الشعر، وكثر لهاة اللفظ على ذولق المعنى. كثير كأنه قليل”.

ويضيف “يعد نوري الجراح صوتا شعريا خاصا جدا، وهو أكثر مجايليه حضورا وتجديدا وابتكارا وارتيادا للآفاق البكر. استطاع، عبر تجربته الشعرية الطويلة منذ مجموعة ‘الصبي’ 1982 أن يحقق سمتي التراكم والتطور، وبهما حافظت تجربته الشعرية المميزة على وهجها وألقها دون أن تقع في فخ التكرار والجمود على غرار تجارب شعرية عربية عديدة لشعراء كبار”.

ويتابع باي “يحتفي الجراح، دائما، بالمكان الوطن، المنشود ساعة الغربة، فهو البعيد النائي فتكون القصيدة معادلا وجوديا للوطن، ترزح تحت العبء العاطفي للذكرى. فتتعاظم تباريح الحنين ويعلو الشوق إلى السماء السابعة حين يستدعي في شعره تفاصيل المكان وذكريات الطفولة. وقد يكون المكان في القصيدة، راهنا، يعيش واقعا داميا وسرياليا، فتضحي القصيدة محاكاة أرسطية لحقيقة دموية، وقد يكون الوطن عند نوري الجراح قناعا أو أسطورة، توظف في النص الشعري، محملة بدلالات الإيحاء ورهان التجديد”.

أبوبكر العيادي: قصيدة نوري الجراح شرفته على العالم ونشيده الكوني
أبوبكر العيادي: قصيدة نوري الجراح شرفته على العالم ونشيده الكوني

لكن الوطن السوري، كما يقول الناقد، هو دائما تيمة أساسية في تجربة نوري الجراح، استطاع بها أن يتخلص من غنائية القصيدة العربية ليبلغ درجة عظيمة من درامية القول الشعري وتراجيديا الوجود الإنساني.

 كان فوز نوري الجراح بجائزة ماكس جاكوب الفرنسية 2023 عن فئة الشعر المترجم عن كتابه “ابتسامة النائم” اعترافا جديدا بخصوصية هذه التجربة الشعرية الثرية، وتأكيدا على اعتراف كوني، يفيض على حدود جغرافية العرب وثقافتهم، بهذه التجربة الإبداعية الفريدة.

يقول الناقد والمفكر السوري أحمد برقاوي “حين تعلن لجنة جائزة ماكس جاكوب الفرنسية عن منح جائزتها للشاعر نوري الجراح، فإنها تعلن  في الوقت نفسه عن موقف من الشعر المنتمي إلى الفرادة الجمالية وإلى الهم والقلق الوجوديين، وإلى الحياة كما يجب أن تكون، وإلى تراجيديا الإنسان العربي التي جعل منها نوري ملاحم ربط بينها وتلك الملاحم الأسطورية القديمة لشعوب المتوسط، فكانت ملاحم عن الحياة المعيشة التي تشهد كفاحا من أجل الحرية والحق”.

ويضيف “إذا كان الشاعر ماكس جاكوب قد قال يوما ‘على قصيدة النثر أن تكون حرة وحية، على الرغم من القواعد التي تهذبها أسلوبا’، فإن قوله هذا يتطابق مع  قصيدة نوري التي منحتها عربيته الثرية وجمالها البياني وموسيقاها العبقرية والوعي الفلسفي الكامن فيها خصوصية تحررت من أي صورة من صور التقليد. وإننا إذ نحتفل، مع نوري الجراح، بمنح هذه الجائزة له، فإنما نحتفل بتجربة شعرية أصيلة تضاف إلى تاريخ شعرنا الأصيل”.

أسعد فرزات: نوري استطاع بالكلمة رسم صور تشكيلية منحتني أفقا جديدا
أسعد فرزات: نوري استطاع بالكلمة رسم صور تشكيلية منحتني أفقا جديدا

يقول الناقد العراقي حاتم الصكر إن “تكريم الشاعر بجائزة، هو أولا فوز للقصيدة، وللتحديث الذي تتبناه، وتعمل على إجرائه أسلوبا في الكتابة الشعرية. ذلك كان إحساسي الأول عند سماعي نبأ تكريم الشاعر نوري الجراح. عرفت الجراح منذ الثمانينات. وكانت تجربته الشعرية قد اتخذت ملامحها، وترسخت ضمن رعيل من شعراء الحداثة ممن جمعتهم هموم مشتركة تتركز في تطوير قصيدة النثر العربية، والذهاب بها بعيدا عن الغنائية الفجة والإيقاعية الشفاهية والمنبرية، جيل يمثل الجراح أحد أصواته المميزة”.

ويضيف “هو شاعر متوسطي بقارب هيليني. هكذا وصفت الجراح بعد صدور ديوانه ‘لا حرب في طروادة كلمات هوميروس الأخيرة’، حيث توغل في الأسطورة والإشارات التاريخية وتماهى مع ثقافة ثالثة أراد لها أن تستوعب القصيدة، وأن تستوعبها هي أيضا. التكريم يذهب للنصوص دوما، وذلك مغزاه”.

شاعر أيقوني

أيمن باي: تحت العبء العاطفي للذكرى قصيدة الجراح معادل وجودي للوطن
أيمن باي: تحت العبء العاطفي للذكرى قصيدة الجراح معادل وجودي للوطن

يقول الكاتب السوري خلدون الشمعة “أود في هذه التحية ثلاثية الأطراف التي أزجيها لصديقي الشاعر الكبير نوري الجراح ولدار أكت سود شديدة التأثير، والمترجم المتمكن لمختارات الجراح إلى الفرنسية ‘ابتسامة النائم’ أنطوان جوكي، بمناسبة نيل الشاعر المستحق لجائزة ماكس جاكوب الشعرية”.

ويضيف “أود أن أشير إلى المعاني الخطيرة التي تنطوي عليها هذه الجائزة المهمة فأذكر أولا أن شعر نوري الجراح انطلق منذ البداية وفق منزع مختلف عن حداثية الشعر المعاصر. وهذا الاختلاف انطلق، في رأيي، من منطلق قوامه أن الفترة الهيلينستية من تاريخ البحر المتوسط وآدابه تمثل سيرورة أصفها بأنها منسية، وأعني بذلك أنها سيرورة الدمج بين الهيلينية المسيطرة، أي المركزية اليونانية، وبين الشرق السوري ممثل الأطراف. وما أعنيه هنا أننا إزاء شعر إشكالي يترك النقاش مفتوحا على حسم أنثروبولوجي. ما فعله الشاعر نوري الجراح، وباختصار، تقديم الحسم إزاء وجهتي نظر حول رؤية حضارة العالم، رؤية لا أتردد في اعتبارها عابرة للحضارات”.

ويتابع الشمعة “تشير وجهة النظر السائدة التي ألفها الأنثروبولوجيون الغربيون طويلا، إلى أن الحضارة الهيلينية (اليونانية)، حضارة المتوسط، هي حصيلة غزو جمالي من قبل شعوب هندو – أوروبية. لكن اليونانيين أنفسهم أصحاب ما يدعى بالكلاسيكية في سياق عالمي مسيطر لم يشيروا البتة إلى هذا الغزو الذي يدعى بالموديل الآري. هذا المعنى بالتحديد هو فصل المقال في الدراسة العامة التي أصدرها الباحث البريطاني مارتن برنال بعنوان ‘أثينا السوداء: الجذور الآسيوية الأفريقية للحضارة الكلاسيكية'”.

أحمد برقاوي: نوري الجراح حول تراجيديا الإنسان العربي إلى ملاحم
أحمد برقاوي: نوري الجراح حول تراجيديا الإنسان العربي إلى ملاحم

ويبين أن في معظم أعمال الجراح، كما يعتقد، يقدم الشاعر ما يمكن اعتباره بمثابة معادل جمالي مبتكر لصنيع فرانسيس برنال. ما فعله الشاعر، منذ زمن بعيد، هو التحديق الماكر في العصر الهيلينيستي، في مرحلة منسية، أو ربما مكتومة عمدا امتدت زهاء ثمانية قرون وتلاحقت فيها الحضارات ثم تلاقت في سوريا ومصر.

ويتابع “السوريون والمصريون استوعبوا الهيلينية بعد فتوحات الإسكندر وأضافوا إليها بعدا محليا أنجب الثقافة الهيلينستية التي أثرت بالغربين اليوناني واللاتيني الأوروبي في وقت لاحق. مرة أخرى تحية لشاعر أيقوني مبتكر لابد في تقديري أن تعتز به حضارتنا الشعرية كلما استعادت ثقتها بنفسها”.

يهنئ الناقد والكاتب المصري ممدوح فراج النابي بداية فوز ترجمة المختارات الشعرية “ابتسامة النائم” للشاعر نوري الجراح بترجمة أنطوان جوكي، بجائزة ماكس جاكوب لعام 2023، فالجائزة في المقام الأول فوز للشعر الحق؛ الشعر المهموم بالإنسان وقضاياه، ومأساته، الشعر المتوسد باللغة، والباحث عن لغته الخاصة، الشعر المفقود وسط آلاف من دواوين مدعي الشعر (الذين ينشدون الشعر وما هم ببالغيه)، الشعر النابض بالحياة حتى وهو يستعير أساطير وميثولوجيا الماضي، الشعر الذي يرادف حياة الشاعر، ووجوده، وكينونته، وهويته، والحالم بعالم أفضل، وغد مشرق.

حاتم الصكر: نوري الجراح من شعراء الحداثة الذين طوروا قصيدة النثر العربية
حاتم الصكر: نوري الجراح من شعراء الحداثة الذين طوروا قصيدة النثر العربية

ويقول “الجائزة تتويج مستحق ومتأخر اعترافا بمسيرة طويلة وشاقة ومتعددة الدروب والمسالك والمنافي لشاعر نذر نفسه للقصيدة (ومن أجلها) منذ بداياته، انحاز للشعر والكلمة، وأخلص من أجل ذلك أيما إخلاص، أخلص للشعر فصار متتبعا لتطوراته ومقتفيا لجديده، ومدافعا عنه وباحثا عن قصيدته التي لم تكتب”.

ويتابع “نوري الجراح بلا مبالغة كرس حياته للشعر، ومؤخرا كرس دواوينه (الأخيرة) وبالأحرى ملاحمه منذ ‘يوم قابيل والأيام السبعة، وقارب ليسبوس، ولا حرب في طروادة’ للدفاع عن المأساة السورية، فاتخذ من الشعر سلاحه (وهو الأعزل إلا من سلاح الكلمة التي هي فرقان بين نبي وبغي) للدفاع عن الإنسان وخاصة السوري في مأساته الأخيرة وتغريبته في أصقاع الأرض، فصار أشبه بسيزيف حاملا صخرته (شعره) يندد بهذه المأساة وبصناعها، فكتب مراثيه متخذا من الأسطورة أو الميثولوجيا محورا مهما في القصيدة، وجاعلا لها بعدا آخر داخلها، رابطا بين مأساة الماضي ومأساة الحاضر، وكأنه يعيد الملاحم الخالدة إلى الحياة، ولكن بصياغة لغوية شديدة الرهافة، وفي الوقت ذاته بصياغة عصرية كي تتلاءم مع الراهن وتغريبته الجديدة التي لم تفرضها الآلهة وإنما الدكتاتوريات الحديثة. يريد أن يجعل من الشعر المؤرخ للمأساة (ألم يكن الشعر يوما ديوان العرب) معلقته الشاهدة على ما حاق بهذا الإنسان من أقسى أنواع الظلم والغبن والتشريد على مر التاريخ”.

ممدوح فراج النابي: الجائزة تتويج مستحق ومتأخر اعترافا بمسيرة طويلة وشاقة
ممدوح فراج النابي: الجائزة تتويج مستحق ومتأخر اعترافا بمسيرة طويلة وشاقة

ويؤكد أن نوري الجراح في شعره وعبر دواوينه الممتدة بدءا من ديوان “الصبي” (1982)، و”مجاراة الصوت” (1998)، مرورا بـ”طريق دمشق والحديقة الفارسية” (1992) إلى ملاحمه المأساوية، أعاد الاعتبار أولا لمفهوم الشعر، باعتباره مساجلة في اللغة، وكذلك أعاد الاعتبار لعلاقة الشاعر بعالمه، فلا يعيش الشاعر في جزيرة منعزلة منتظرا الإلهام، وإنما هو منغمس في واقعه، متفاعل مع قضاياه، منحاز لشعبه العربي المقهور، فقصيدته لا تعبر عن مأساة السوري وفقط، بل هي لسان حال كافة الشعوب العربية المقهورة ومسلوبة الإرادة والحرية والقوت، التي تعرضت للنكبات بفعل سياسة الاحتلال، أو بفعل الدكتاتورين، فقصيدته بالمعنى الأعم تنحاز للإنسان بغض النظر عن جنسيته أو عرقه، أو دينه أو لونه، وإنما الإنسان الذي من حقه أن يحيا حياة كريمة حرا أبيا، لا مطاردا منفيا.

ويرى أن الجراح أخلص للكلمة سواء على مستوى الكتابة بكافة أشكالها (الإبداعية ‘النثر والشعر’)، والصحافية بجهوده في تأسيس الكثير من المنابر الثقافية، التي كانت علامات ومصابيح في طريق الثقافة المعتمة والمضببة، أو كذلك بالمشاريع الثقافية التي أحيت فنونا مهجورة، على نحو إعادة الاعتبار لأدب الرحلة في الثقافة العربية، بتأسيسه مع الشاعر محمد السويدي المركز العربي للأدب الجغرافي. وبهذا كله غدا – بلا أدنى شك – صانع المجلات، منذ بداياته في تأسيس مجلة الناقد، وصولا إلى مجلة الجديد التي ما زال يحارب بها طواحين الهواء، كي تصمد لمواجهة أدعياء الكتابة، والمجلات المدعية الثقافة، فغدت مجلة الجديد واحدة من أهم المجلات الثقافية التي تقدم جرعة ثقافية تحترم عقلية القارئ المثقف، بما تطرحه من موضوعات، وقضايا سجالية، وما تقدمه من مادة نقدية وفكرية بمثابة وجبة شهرية ينتظرها القارئ من المحيط إلى الخليج على أحر من الجمر.

ويختم النابي “العنوان الرديف لاسم الشاعر نوري الجراح على مستوى الشعر خاصة، أو الكتابة بصفة عامة هو الإخلاص والنفس الدؤوب، فنوري مخلص للشعر، ومخلص للكتابة، ومخلص لعمله لا يخرجه إلا بأحسن شكل، وفي أتم صورة، فهنيئا له بهذا الفوز المستحق، ودؤوب في إخراج مشاريعه مهما كانت العقبات والعراقيل، فهو لا يتوانى عن تقديم ما لديه بإصرار ودأب مستمرين. هنيئا بشاعر يعرف ماذا يقول، وكيف، ومتى، ولمن؟ فهو لم يحصر شعره بين دفتي كتاب، وإنما يصدح بشعره في كافة المحافل الأدبية العربية والغربية في استعادة لدور الشاعر القديم في أن يكون المدافع عن القبيلة”.

11