جائزة الكتاب النمساوي تكرم أدب الجريمة والشعر الذاتي

"الحقول المحترقة" و"الماء المتبقي" يعيدان تعريف الحدود التقليدية للسرد والشعر.
الاثنين 2024/12/02
كاتب يتلاعب بحبكة الرواية

وفية لعادتها كل عام تقدم جائزة الكتاب النمساوي في دورتها الجديدة أعمالا أدبية استثنائية كتبها أدباء مجربون يجددون في الأدب أسلوبيا وحتى من حيث الموضوعات. وها هي تتوج روائيا وشاعرة قدما كتابين تمكنا من إقناع اللجنة بتفردهما، خاصة من حيث الأسلوب الفني المجدد.

أعلنت لجنة تحكيم جائزة الكتاب النمساوي لعام 2024 عن فوز الكاتب النمساوي راينهارد كايزر مولكر بجائزة الرواية عن عمله المميز “الحقول المحترقة”، الذي تنافس مع 84 رواية أخرى صادرة عن 56 دار نشر خلال العام الجاري، كما نالت الشاعرة الألمانية فريدا باريس جائزة الإصدار الأول عن ديوانها الشعري “الماء المتبقي”، بعد أن واجهت منافسة قوية من 26 إصداراً أدبياً نشرته 21 دار نشر.

هذا الإعلان يؤكد مرة أخرى قدرة الأدب النمساوي والألماني على تقديم إبداعات تتحدى القوالب التقليدية وتفتح آفاقاً جديدة للتجريب والتأمل.

أسلوب سردي متقن

بوكس

في روايته الفائزة، يقدم راينهارد كايزر مولكر “الحقول المحترقة” صورة عميقة لعالم يرزح تحت وطأة التصدع النفسي والاجتماعي. تدور أحداث الرواية حول لويزا فيشر، وهي شخصية مركبة تسعى إلى التعامل مع إرث من الألم وخيبات الأمل. لويزا ليست فقط أماً فقدت الثقة بنفسها وعائلتها، بل هي أيضاً امرأة تعيش صراعات داخلية تجعلها تبحث بلا جدوى عن مخرج من واقعها الكئيب.

تُجسد لويزا في الرواية نموذجاً للانفصال عن الذات والمحيط، فهي تجد نفسها عالقة بين ماضٍ يثقلها وحاضر يبدو بلا أمل. عندما تدخل في علاقة محرمة مع زوج والدتها، تجد نفسها في مأزق عاطفي وأخلاقي تتفاقم عواقبه بعد أن يُقتل هذا الرجل أثناء عملية سطو. يجسد الكاتب ببراعة كيف أن انجذاب لويزا إلى قاتله ليس إلا تعبيراً عن بحثها المحموم عن الهروب من واقعها المؤلم، لكن هشاشة العلاقات الإنسانية تجعل محاولاتها محكومة بالفشل.

ما يميز أسلوب راينهارد كايزر مولكر هو قدرته على بناء عالم سردي مكثف يوازن بين البساطة والتعقيد. يتلاعب الكاتب بحبكة الرواية بطريقة تجعل القارئ غارقاً في التشويق والتأمل في آن واحد. شخصياته ليست مجرد أدوات لنقل القصة، بل هي مرايا تعكس قضايا إنسانية أعمق. الناقد سباستيان فاستهوبر وصف مولكر بأنه “كاتب يقدس الأدب”، بينما أثنت الكاتبة أندريا جيرك على أسلوبه السردي الفريد الذي يمزج بين الكثافة والعذوبة.

راينهارد كايزر مولكر، المولود عام 1982 في شمال النمسا، ينحدر من خلفية تجمع بين الزراعة والتاريخ والتنمية الدولية، وهي مجالات أثرت بلا شك في أعماله الأدبية. بدأ مسيرته الأدبية بروايته الأولى “الطريق الطويل عبر المحطات” عام 2008، التي لاقت ترحيباً نقدياً واسعاً. منذ ذلك الحين، نشر تسع روايات ومجموعة قصصية بعنوان “لوحات” (2015)، بالإضافة إلى مسرحية “العلاج” (2011). رواياته تُظهر تأثراً واضحاً ببيئته الريفية وتجربته في العيش والعمل في المزرعة، التي أصبحت مصدر إلهام لقصصه وشخصياته.

حصل مولكر على العديد من الجوائز الأدبية، من بينها جائزة الكتاب البافاري لعام 2022 عن روايته “الصياد المتوحش”. وتتوج رواية “الحقول المحترقة” مسيرته بحصوله على جائزة الكتاب النمساوي لعام 2024، التي تبلغ قيمتها المادية 20 ألف يورو.

تجربة شعرية جريئة

في فئة الشعر، تألقت الشاعرة الألمانية فريدا باريس (الاسم الحقيقي: فريدريكه شيمب) بديوانها “الماء المتبقي”، الذي يُعد تجربة أدبية فريدة تجمع بين الشعر والنثر والذكريات.

 يتميز الديوان، الذي يتألف من 136 صفحة، بأنه قصيدة طويلة تتشابك فيها الأصوات والصور والتجارب.

◄ رغم أن فريدا باريس لم تدرس الأدب أكاديميا إلا أن خلفيتها في المسرح والسينما والإعلام أثرت على كتاباتها

“الماء المتبقي” يطرح سؤالاً جوهرياً: ما الذي يمكن أن يكون عليه الشعر؟ تجيب باريس من خلال ديوانها بأن الشعر يمكن أن يكون “كل شيء.” تدمج في عملها بين الماضي والحاضر، مستخدمة نصوصاً متنوعة الطول والزمن لرسم صورة متعددة الطبقات. يصف الناقد مارسيل باير الديوان بأنه “يشبه فيلماً وثائقياً تتحرك مشاهده بين الثلوج في فيينا والرمال في اليابان.” العمل يمثل تجربة شعرية جريئة استلهمت فيها باريس من كبار الأدباء مثل بول تسيلان وإنغبورغ باخمان، ما يجعل ديوانها انعكاساً لرحلة ذاتية مليئة بالتجارب والتأملات.

رغم أن فريدا باريس لم تدرس الأدب أكاديمياً، إلا أن خلفيتها في المسرح والسينما والإعلام أثرت بشكل كبير على أعمالها الأدبية. بدأت باريس مسيرتها الفنية ككاتبة سيناريو ومؤلفة مسلسلات إذاعية، قبل أن تنتقل إلى الكتابة الأدبية. شغفها بالشعر ظهر من خلال ورش عمل أدبية شاركت فيها بإشراف كتاب مرموقين.

ديوانها “الماء المتبقي” يمثل نقلة نوعية في مسيرتها، ليس فقط بسبب نيله جائزة الإصدار الأول، التي تبلغ قيمتها 10 آلاف يورو، بل لأنه جذب انتباه النقاد والقراء على حد سواء. لجنة التحكيم وصفت عملها بأنه “مخاطرة جريئة،” إذ استكشفت من خلاله عملية الكتابة نفسها، مما يجعل منه عملاً مبتكراً يستحق الإشادة.

جائزة الكتاب النمساوي لعام 2024 تؤكد مرة أخرى على دورها في تسليط الضوء على أعمال أدبية تعيد تعريف الحدود التقليدية للسرد والشعر. من خلال تكريم رواية “الحقول المحترقة” وديوان “الماء المتبقي”، أثبتت الجائزة قدرتها على إبراز الأصوات الأدبية التي تعكس تعقيدات الإنسان الحديث.

رواية “الحقول المحترقة” قدمت تجربة سردية استثنائية في أدب الجريمة والصراع الإنساني، بينما أضاء ديوان “الماء المتبقي” أفقاً جديداً للشعر الذاتي. هذه الإبداعات تشهد على أن الأدب، في جوهره، يظل قادراً على التجدد وكسر الحدود التقليدية، مما يجعل من الجائزة منصة حقيقية للاحتفاء بالإبداع في أبهى صوره.

كتب كتب

 

12