جاء عباس. ذهب عباس. والنتيجة صفر

انتظر أسبوعا آخر، لترى ما هي نتائج زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الأردن. إنها النتيجة نفسها التي تحققت من زيارته إلى أنقرة. وهي النتيجة نفسها أيضا التي تحققت من زيارته إلى الرياض. ولو أنه ذهب إلى المريخ، فإنه سيعود بالنتيجة ذاتها. ولكن ليس لأن هذه العواصم لا تملك ما تقدمه للقضية الفلسطينية. بالعكس تماما. بل لأن عباس نفسه لا يملك ما يقدمه لها.
للأردن حساباته مع إسرائيل. كما أن للسعودية حساباتها. هذه شؤون دول. تُقلّب خيارات. تبحث عن فراغات، لتفتح منافذ أو تغلق أخرى. إلا أنها، في ما يخص القضية الفلسطينية محكومة بخيارات عباس التفاوضية مع إسرائيل. أي أنها محكومة بأوهامه. تحاول أن تستفهم منه ما يمكنها عمله لصالح قضيته. ولكن، حيث إنه يدور في الفراغ، فإنه يجعل من كل جهد يحيط به فراغا.
لقد مضى أسبوع على زيارته للأردن. وسوف يمضي آخر. ومن بعدها تعال وقل للذين ينتظرون منك تقديرا للموقف، ماذا جنى عباس لقضيته عندما جاء وذهب.
لا تستطيع أن تتخيل، مثلا، أن لقاء عباس بالعاهل الأردني أدى إلى إقالة دزينة من محافظي البلدات الفلسطينية الذين أحالهم عباس إلى التقاعد. لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي حصل. كان من الأولى به أن يتقاعد هو نفسه.
◙ ذهب عباس. لا يهم إلى أين يذهب، لا شيء سوف يتغير، الرجل ينتظر شيئا ما لا تعرف ما هو ولكنه يتلقى اتصالات غامضة من كائنات على مستويات عدة
يصنع عباس ببقائه في سلطته “إستاتيكو” من اللاشيء في دوامة من الفراغ. يبدو مرتاحا لهذه الوضعية. على الأقل لأنها توفر عليه الكثير من الصداع المتعلق بالبحث عن إستراتيجية وطنية في مواجهة الاحتلال. أحد أهم عناصر هذه الإستراتيجية يتعلق بإعادة بناء مؤسسات الشرعية الفلسطينية. وهنا بيت القصيد من الدوران في دوامة من الفراغ.
جاء عباس. لا تعرف لماذا جاء. لا قيمة للسبب. كما لا قيمة للخبر نفسه. لأن عباس يأتي من ذلك الفراغ ويعود له حصرا. وهذا مناسب تماما لإسرائيل ليس لأنها تسرق المزيد من الأرض فحسب، بل لأنها تسرق المزيد من الوقت أيضا. كل يوم يمر، يصلي بنيامين نتنياهو لأجل أن يطول عمر الرئيس عباس. وهو يبحث خططا لدعم سلطته، ليمده بالمزيد من أسباب البقاء (الفراغ). إذ ما من أحد خدم مشاريع نتنياهو منذ أن تولى سلطته في العام 1996 إلى اليوم مثل عباس.
هل تذكر الخارطة المنخورة بالمستوطنات التي قدمها عباس إلى مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر 2016؟ كانت تلك الخارطة، ثمرة من ثمرات التواطؤ بين عباس ونتنياهو. اليوم يستطيع عباس أن يعرض خارطة منخورة أكثر، ليعرف أنه لم يقدم لقضيته إلا المآسي والإحباط.
التواطؤ لا يحتاج إلى أن يكون مؤامرة مخابراتية. ولو كنت لا تستطيع أن تستبعدها. ولكن زعيما مثل عباس يراهن على “إستاتيكو” الفراغ، ليحصد اللاشيء، هو أفضل من يتعين عليك أن ترعاه، وتتمنى له طول البقاء. وتصلي لكل شياطين الأرض من أجل أن يبقى “رايح جاي”.
اجتماع العلمين لقادة الفصائل الفلسطينية، كان لحظة ظن البعض أنها سوف تؤدي إلى مفترق. انفض الاجتماع الذي لم يتجاوز ساعتين، وأسفر عن فراغ. جرى الاتفاق على تشكيل لجنة متابعة. اللجنة لم تتابع شيئا، حتى عاد واتصل إسماعيل هنية بعباس ليذكره بها. فاتفقا على “الإسراع” بتشكيل اللجنة.
لماذا “الإسراع”، بعد مضي عدة أسابيع على انعقاد الاجتماع؟ وما الذي سوف يحصل لو أن اللجنة تشكلت؟ أو لو أنها توصلت إلى تصورات؟ الكل يعرف أنه لا شيء يُجبر عباس على “الإسراع” أو الإبطاء. الرجل يتحرك وفقا لحساباته هو. لا يأبه للوقت. كما لا يأبه لما يحل بالأرض. لم ينتظر منخورها على الخارطة، كل تلك السنوات، من أجل أن يسرع في شيء.
“الأمناء العامون” أنفسهم، صاروا مثل الذي يدور في فلك كوكب بطيء. ربما تحولوا إلى أشخاص تغمرهم السخرية من أنفسهم ومن عباس. إلا أنهم منشدّون له بحبال البطء والفراغ.
◙ جاء عباس. لا تعرف لماذا جاء. لا قيمة للسبب. كما لا قيمة للخبر نفسه. لأن عباس يأتي من ذلك الفراغ ويعود له حصرا. وهذا مناسب تماما لإسرائيل ليس لأنها تسرق المزيد من الأرض
ماذا تعرف عنهم؟ ماذا يعملون؟ ما الذي كان يشغلهم بعد فنجان قهوة هذا الصباح؟ لديهم بيانات جاهزة لكل شيء، موجودة كاحتياط، في الجارور التحتاني، عندما تنفذ إسرائيل مجزرة، أو عندما يقتحم جنودها المسجد الأقصى. كل واحد منهم عباس آخر في دائرته. يخدمون الفراغ نفسه الذي يخدمه عباس.
ذهب عباس. لا يهم إلى أين يذهب. لا شيء سوف يتغير. الرجل ينتظر شيئا ما. لا تعرف ما هو. ولكنه يتلقى اتصالات غامضة من كائنات على مستويات عدة. تقول له إن شيئا ما سوف يحرك شيئا آخر، لعل شيئا ثالثا يفتح أفقا لشيء رابع.
لا أحد على وجه الأرض يتعامل مع الوعود الغامضة مثل عباس. وهو يتعمد أن يعطل كل مسعى للخروج من دائرة الفراغ، لأنه ينتظر شيئا من تلك الوعود.
إستراتيجية عباس هي “الانتظار”. تيبس على مقعد الرئاسة، كمن لفته عاصفة من الغبار، فتحول إلى صنم. والانتظار يعني أن يدور الفلسطينيون، وتدور قضيتهم، حول أوهامه ورهاناته واتصالاته الغامضة.
الكثير جدا من الفلسطينيين يعتقدون أنهم في حاجة إلى “إستراتيجية وطنية موحدة”. لديهم الكثير مما يمكن قوله بشأنها. حتى أصبحت أنشودة من أناشيد البيانات التي تتحدث عن “إنهاء الانقسام” و”إنهاء أوسلو” و”إنهاء التنسيق الأمني”. يغفل الجميع أنهم في حاجة إلى شيء أهم. هو إنهاء عباس. إنهاء رحلات الذهاب والمجيء. إحالته إلى التقاعد. إجباره عليه. عدم الاعتراف برئاسته. الامتناع عن تلقي الاتصالات منه أو من حاشيته. الافتراض أنه لم يعد موجودا. تجاهل أخباره. الامتناع عن المشاركة في أي شيء يدعو له.
هناك أسطورة تتحدث عن لعنة أصابت شخصا هي أنه كلما أمسك بشيء تحول إلى ذهب. محمود عباس مصاب بلعنة ألعن. هي أنه كلما أمسك بشيء تحول إلى فراغ.