تَهّــام نفسِه

في الحياة يصادفك نوعٌ من البشر رمى الله فيه حب المباهاة والتظاهر بالبطولة والشطارة والذكاء وقوة الحيلة.
الخميس 2021/12/09
نهاية الجلسة

يصادفك في الحياة، أحيانا، نوعٌ من البشر رمى الله فيه حب المباهاة والتظاهر بالبطولة والشطارة والذكاء وقوة الحيلة. ومن هؤلاء صنفان.

الأول لديه بعضٌ ممّا تباهى به من أفعال حقيقية تؤيد مباهاته تلك، ولكنه يميل إلى المبالغة فيها والإضافة إليها ونفخ الأشياء.

أما الآخر فلا شيء عنده من كل ما باهى به وفاخر، بل هو منتحلُ بطولات هي من صنع آخرين ويزعم أنه صاحبها وفاعلها، وهو منها وهي منه براء.

وإليكم الحكاية.

في عام 1959 تفجرت حركة من العنف في الموصل وكركوك لم يعهدها العراق على امتداد تاريخه.

وبعد انتهاء تلك الحوادث الدامية صار استذكارها وتواريخها وأنواعها وتفاصيلها، في المقاهي والمجالس، مزاجًا شعبيًّا عامًّا، وأصبح المرتكبون الحقيقيون لتلك الجرائم أو المخالفات يقصّون أخبارها ويستعرضون مشاركاتهم فيها.

ومن هنا تبدأ الحكاية. ففي شتاء 1960 تشكلت أول محاكمة عسكرية لمحاكمة أبرز المتهمين بارتكاب جرائم في أحداث عام 1959.

وأمرتُ، ومعي مهندس صوت إذاعي، بالسفر إلى الموصل لحضور أولى جلسات المحكمة وإعداد برنامج إذاعي خاص عنها يذاع على الناس لتأكيد حياد الحكومة وجديتها في معاقبة المذنبين.

وفي الجلسة الأولى نودي على المتهم الأول، فدخل. كان في الثلاثين من عمره، مكبـلاً، وجلس داخل القفــص وهو يهتف بحياة الزعيم وبسقــوط المجرمين (الفوضويين). ثم بدأت المحاكمة.

وتعاقب تسعة شهود على الإدلاء بإفاداتٍ ضده خلاصتها أنه اعترف لهم، وبعظمة لسانه، بأنه هو الذي قتل فلانا من الناس، وأنه هو الذي أحرق منزل فلان، واغتصب ابنة فلان، وقطع يد فلان.

أما محامي الدفاع فقد كان يقابل تلك الشهادات ببرود شديد، ولا يناقش أيا من الشهود. وفي نهاية الجلسة نهض محامي المتهم بهدوء، وقال “إن موكلي لا ينكر إفادات الشهود، فقد أخبرهم بتلك الحكايات كلها، لكنني أطلب من عدالة المحكمة الاطلاع على هذه الأوراق الثبوتية التي تؤكد أن موكلي كان يعمل في الكويت محاسبًا في شركة (…)، وأنه كان متواجدًا في مقر عمله هناك من أول العام 1959 إلى غاية أعياد الميلاد في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه”، ثم أبرز للمحكمة شهادات الرواتب التي كان المتهم يقبضها شخصيا من الشركة في الكويت طيلة الفترة المعنية، مع جواز سفره وفواتير الهاتف والكهرباء التي كان قد سددها هناك.

أي أنه لم يكن موجودًا لا في الموصل ولا في العراق كله طيلة الفترة التي وقعت فيها الجرائم التي ادعى -كذبًا- أنه شارك فيها.

فما كان من المحكمة إلا أن حكمت، وبسرعة، بسجن المتهم المذكور خمس سنوات لكذبه.

20