تيدي وريمون رحمة.. رجلا فساد مطلق ونموذج عن النظام السياسي في لبنان

إذا كنت لا تزال تعتقد أن لبنان يرتبط، في بعض رموزه ومعناه، بالأخوين عاصي ومنصور رحباني. فلديك الآن أخوان آخران أكثر تمثيلا لما انتهى إليه هذا البلد. إنهما الأخوان تيدي وريمون رحمة.
الأخوان رحباني كانا هما فنجان قهوة الصباح. وهما تقسيمة البهجة التي تنثر الأشواق ومعاني الحياة العابرة للحدود والانقسامات والطوائف. كانا هما قسمة العيش على نغم للعذوبة والمخملية.
صورة عن لبنان
الأخوان رحمة نموذج لطبيعة النظام السياسي في لبنان وعلاقات أطرافه ببعضها ونظام حياته، بل وحتى تصوره لمعنى الوجود
حتى في خضم الحرب الأهلية، كان الأخوان رحباني هما لبنان العيد.
في العام 1976 غنت فيروز في دمشق: “سألوني شو صاير ببلد العيد – مزروعة عالداير نار وبواريد – قلتلن بلدنا عم يخلق جديد – لبنان الكرامة والشعب العنيد”.
أما الأخوان تيدي وريمون رحمة، فيعزفان ألحانا أخرى. ولو شئت أن تصنع مجسما بشريا للبنان ما بعد اتفاق الطائف، فلن تجد أفضل منهما. إنهما نموذج لطبيعة نظامه السياسي وعلاقات أطرافه ببعضها ونظام حياته، بل وحتى تصوره لمعنى الوجود.
إنهما يمتلكان روابط مع الجميع. وهما مقبولان من الجميع، ومثلما “يمونان” على الجميع، فللجميع ما يمون به عليهما. يأخذان ويعطيان. يعقدان صفقات ليس لكي يستفيدا منها لوحدهما، ولكن لكي يستفيد منها الجميع. فإذا قلت إنهما رجلا فساد مطلق. فلبنان بالأحرى هو الفساد المطلق، وإنهما يمثلانه أفضل تمثيل. وذلك إلى درجة تدفع إلى التساؤل: لماذا لم يترشحا، كشخصين معا، لمنصب رئيس الجمهورية. صحيح أن ذلك سوف يبدو غريبا، لأن الرئاسة لا تكون إلا لشخص واحد، ولكنهما شخص واحد فعلا.
الولايات المتحدة تفرض الآن عقوبات عليهما وعلى شركاتهما في لبنان وخارجه. الخزانة الأميركية قالت إنهما استخدما “ثرواتهما وقوتهما ونفوذهما للانخراط في ممارسات فاسدة تسهم في انهيار حكم القانون في لبنان.. وأنهما استخدما إمبراطوريتهما التجارية وعلاقاتهما السياسية لإثراء نفسيهما على حساب الشعب اللبناني”.
انظر إلى لبنان. فماذا ستجد؟ النظام كله قائم على حساب الشعب اللبناني. هذا الشعب يجوع ويعجز عن الحصول على أدنى مقومات الحياة، ليس لأن هناك تيدي وريمون رحمة، بل لأن مؤسسة الحكم والدولة هي نفسها تيدي وريمون رحمة.
هذان الشخصان ليسا مجرد رجلي “أعمال”. إنهما ظاهرة سياسية واجتماعية واقتصادية بل وحتى ثقافية أيضا. وهما نموذج “معاصر” للشخصية اللبنانية المستعدة لتدوير المربعات وتربيع الدوائر من أجل مكسب طارئ، وتسوية آنية، ومنفعة عاجلة. وحيث أن كل شيء “مؤقت”، منذ اتفاق الطائف (1989) الذي أقام نظاما مؤقتا، ريثما يأتي الإصلاح، فقد تواطأت القناعات هناك على أنه “لا دائم كالمؤقت”.
علاقات هذين الشخصين منفتحة على الجميع. ليس لديهما أعداء، ولا خصوم. وبحسب الطريقة “القانونية” التي يجريان بها صفقاتهما، فهما لا يخشيان المنافسة أيضا. ولا يقلقهما أن يخسرا صفقة، لأن الصفقة التالية لهما حتما. دفتر حساباتهما مفتوح على كل الجبهات، متحالفة كانت أم متخاصمة. فهما “صديقان” أو “أكثر” لسمير جعجع وجبران باسيل ونبيه بري وسليمان فرنجية وحسن نصرالله وميشيل عون ورياض سلامة. صديقان لكل الوزراء الذين تخرج من بين أيديهم الصفقات والعقود. كما يمتلكان مصرفا فيه حسابات مفتوحة لكل “الأصدقاء” وأصدقائهم. هناك يتم تقاسم النسب الحقيقية للمنافع المتبادلة. وهناك يتجسد المعنى من وجود لبنان. كمرتع خصب للنهب والصفقات والحلول المؤقتة.
اسما الأخوين ارتبط بقضية "الفيول المغشوش" التي افتضح أمرها في العام 2017، أي قبل بداية الانهيار المعلن بسنتين
ارتبط اسماهما بقضية “الفيول المغشوش” التي افتضح أمرها في العام 2017، أي قبل بداية الانهيار المعلن بسنتين، حيث استقدم الأخوان وقودا غير مطابق للمواصفات لصالح شركة كهرباء لبنان، مما تسبب في أضرار في تجهيزات معامل الكهرباء، حتى تفشت فيها الأعطال. وكانا على استعداد لعقد صفقات لإصلاح الأعطال، ولشراء تجهيزات جديدة. كل شيء سهل. تلك هي الدائرة. فساد يصنع خرابا. وفساد يتولى الإصلاح. لولا أن القضاء بشأن هذه القضية بالذات أصدر “قرارا ظنيا” ادعى فيه على عشرات الأشخاص بينهم مديرون عامون ورجال أعمال كان تيدي رحمة واحدا منهم. وككل جريمة أخرى في لبنان، تم دفن القضية.
لم يعمل الأخوان رحمة في الخفاء. والتعاقدات، وإن تمت تسوية تفاصيلها في الباطن، فإن الظاهر ظل قانونيا باستمرار. وبقي “القرار الظني” مجرد ظن عابر آخر، في بلد تغمره الظنون.
أكثر ما قد يثير الاستغراب هو أن يتبرأ منهما الجميع أيضا. وحده سليمان فرنجية بقي صامدا في الاعتراف بأنهما أخوان وصديقان له، وأن ضميره مرتاح.
فرضُ العقوبات عليهما، ربما قصد الإطاحة بفرص فرنجية لكسب الرئاسة. ولكنه أطاح بالنخبة السياسية كلها. فروابط الأخوين رحمة لا تتوقف على أحد. إنها نسيج يجتمع فيه “الأخوة الأعداء” في لبنان، ويقتسم معهم المنافع على حد سواء.
السؤال الوحيد الجدير بالاعتبار، هو أن البلاد التي تغرق في الجحيم، لماذا يتوجب ألا تنهار؟ ما الذي تعنيه مساعي الإنقاذ فيها؟ ولماذا يُنتخب لها رئيس أو حكومة أصلا؟ لماذا يتعين تربيع الدائرة أو تدوير المربع في كل مرة. لماذا يبقى كل شيء سهلا أصلا: فساد يصنع خرابا، وفساد يتولى الإصلاح. أي نوع من العبث الوجودي هو هذا؟ ما معناه؟
دولة الأخوين رحمة، مثل دولة الأخوين حسن نصرالله ونبيه بري، والأخوين ميشيل عون وجبران باسيل، وغيرهما، من الخير أن تنهار. لم يبق فيها ما يستوجب إنقاذه، أو بقاء الأمل فيه.
لا الإصلاح ممكن، ولا التغيير مقبول. نخبة الفساد التي قادها تحالف الأخوين نصرالله – باسيل، لن تسمح بإصلاحات تهدد نمط الحياة الذي يجسده الأخوان رحمة. لبنان هو هؤلاء الأخوة، حتى ولو مات شعبه جوعا.
لا أحد قادر أيضا على خوض حرب أهلية أخرى. حرب 1975 – 1989، كانت تقف خلفها تصورات يجدر التنازع من أجلها. تلك التصورات ماتت. وكل ما نراه الآن، هو الموات الذي عمّ على كل شيء آخر. ماتت النيات الحسنة مثلما ماتت السيئة، وماتت الرغبات. مات “لبنان الكرامة” وتحول “الشعب العنيد” إلى شعب يتوسل رغيف الخبز فلا يلقاه. الحياة نفسها تم دفنها عندما انفجر مرفأ بيروت وبقي القصاص مستحيلا.
نخبة فاسدة
مات القانون أيضا. نجيب ميقاتي لا يجد في نفسه حتى القدرة على أن يكون هو الدفّان. لا يريد تحمل المسؤولية. لا يجرؤ على إعلان نهاية الدولة، أو نهاية لبنان.
الكل يعيش في دوامة من التبرؤ والنكران. ولكن، هل يوجد سبيل آخر يتحاشى إعلان النهاية؟
بكل أسف، كل سبيل آخر مجرد وهم. إنه تكرار بليد لنمط عيش أفلس وأفلست معه الحلول ومقترحات الإنقاذ.
لبنان الأخوين رحمة، لن يعود ليكون لبنان الأخوين رحباني لا بـ”حزمة إنقاذ” ولا حتى بفرض عقوبات. يجب أن ينهار ليعاد بناؤه على صورة أخرى.