تيارات سياسية بلا شعبية في خدمة الحكومة المصرية

التيار الحر في مصر.. أداة لقياس الولاء السياسي ومعرفة التوجهات.
الجمعة 2023/06/30
خدمات مجانية من خصومنا السياسيين

القاهرة - لم يحرك الإعلان عن تشكيل التيار الحر في مصر قبل أيام الشارع المصري للتجاوب معه، ولم تبد النخبة السياسية والثقافية والفكرية اهتماما لافتا على صفحاتها الخاصة بالخطوة التي أطلقها عدد من الأحزاب والشخصيات الليبرالية الطموحة، بما يوحي أنها خطوة يمكن أن تحرك المياه الراكدة في الفضاء العام.

وحاولت قيادات مسؤولة عن الخطوة ومن بذلوا جهدا كبيرا على مدار عام لتدشينها تصويرها على أنها نقلة جديدة في المشهد السياسي المصري، غير أن اللامبالاة التي قوبلت بها تشي بأنها لن تغير شيئا أو حتى تمثل حجرا يستفز الشارع للتفاعل معها، وكأن النخبة والأحزاب والشارع أصابهم خرس وبحاجة إلى معجزة لاسترداد صوتهم العالي.

وخسر التيار الليبرالي في مصر جانبا كبيرا من رصيده في الشق السياسي، وإن حافظ على جزء منه على الجانب الاقتصادي، وهي مهمة صعبة تقع على عاتق التيار الحر ليثبت أنه قادر على المساهمة في إحداث تحول نوعي في المشهد العام بعد أن أصابه تكلس خلال السنوات الماضية، لعجز النخب عن التحرك وخنق العمل السياسي ذاته وتكبيله بقيود كبيرة حالت دون نزول النخب وسط المواطنين.

ويحسب تدشين التيار الحر في الوقت الراهن للنظام المصري، ولم يعد منزعجا من هذ التصرف، وهو تغير مهم على القوى والأحزاب السياسية والشخصيات الحاضرة في المشهد استثماره لتأكيد أنها قادرة على الاستفادة من الأجواء الإيجابية التي هيأها الحوار الوطني بين قوى مؤيدة للحكومة وأخرى معارضة لها.

عجز المعارضة تتحمله أحزابها التي يسعى بعضها للحصول على مكاسب من الحكومة، ما أنساها الشارع وهمومه

وتساور القائمين على التيار الحر أحلام كبيرة في العمل السياسي والتأثير الاقتصادي، غير أن قدرتهم العملية محدودة، ووجودهم في الشارع كمحدد لنجاح الفعل السياسي منخفض إن لم يكن متلاشيا، فقد باتت قطاعات كثيرة من النشطاء والشباب والمهتمين بالأنشطة السياسية عازفة عن المشاركة لعدم ثقتها في قدرة القوى الحالية على التغيير، وعدم اقتناعها بأن الحكومة ستسمح بتهيئة الظروف المواتية للعمل السياسي.

ويعيد التيار الليبرالي تكرار أزمة نظيره اليساري والناصري تحديدا، والذي انضوى تحت عباءة الحركة المدنية الديمقراطية ضمن أحزاب وتيارات متباينة، وحاول الحفاظ على قوة دفع تمكنه من تأكيد أن المعارضة لن تنتهي في مصر، لكن الحصيلة لا تزال أقل من المستوى الذي يؤكد أن اليسار أو اليمين يملكان حضورا في الشارع.

وإذا لم يتمكن التيار الليبرالي من حلحلة الخلافات الداخلية ومشكلة التقديرات المتباعدة في بعض المواقف السياسية فسوف يعيد إخفاق نظيره اليساري الذي تحول إلى أفراد أكثر من كونه كيانا متماسكا يعبر عن فكرة أو يملك طموحا للحراك، وإنْ منح هامشا محدودا من الحياة السياسية أحيانا.

وحافظ النظام المصري على شعرة معاوية مع قيادات التيار اليساري، لأن الكثير من قياداته شكلوا نواة للتحالف المعروف بالثلاثين من يونيو الذي أسهم بدور في إسقاط حكم الإخوان، وهي ميزة مركزية تحسب لليسار على خلاف الليبراليين الذين اعتقد عدد كبير منهم أن إسقاط حكم الإخوان يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.

وتحول الموقف من الإخوان في الشارع المصري إلى ترمومتر لقياس الفرز السياسي وتصنيف الولاءات ومعرفة التوجهات، وهو ما يمكن أن يؤثر على التيار الحر الذي لا يمانع الكثير من قيادييه في أن يكون العمل السياسي حرا تماما، وبلا ضوابط تقيد حركة الإخوان التي أضحت مرفوضة من قبل الشارع قبل النظام الحاكم.

ويقول مراقبون إن ليبراليي مصر الآن سيواجهون هذه المعضلة بالانقسام، والذي يمكن أن يتسبب في فجوة داخل كتلة وليدة تحدوها طموحات كبيرة للمشاركة السياسية، بينما تظل أزمتها في الآلية التي يمكن أن تستقطب بها شرائح من المؤيدين وإن سمحت لها الحكومة بالحركة في الشارع، فعدد من رموز هذا التيار ارتبطوا بجهات خارجية تعرضت لدعاية سوداء لن تمكنهم من النزول إلى الشارع.

ويضيف هؤلاء المراقبون أن ممارسة أي عمل سياسي من خلال الغرف المغلقة والبقاء داخل أبراج عاجية والسعي للتغيير النخبوي لن يكتب لها النجاح، وسوف تقود إلى عدم التأثير الإيجابي، فالأوضاع في مصر لم تعد محكومة بما تملكه القوى والأحزاب من إمكانيات مادية وبشرية، بل بما يسهم في الوصول إلى المواطنين في أماكن مختلفة.

ويحتاج الوصول إلى المواطنين أكثر من خطاب سياسي رنان أو قدرة على الإقناع والاستقطاب، فالمعاناة الاقتصادية التي تضرب فئات كبيرة في مصر لن تنجذب إلى مفردات تتحدث عن الليبرالية في أجلى صورها في الغرب أو تستهويها معاني الديمقراطية الموعودة إلى أبعد الحدود.

القائمين على التيار الحر تساورهم أحلام كبيرة في العمل السياسي والتأثير الاقتصادي، غير أن قدرتهم العملية محدودة

وما لم يتمكن أي تيار، ليبرالي أو يساري، من المساعدة في حل الأزمة المعيشية سيكون من الصعب الوصول إلى قلب وعقل الجماهير التي تمثل وقود الفعل السياسي.

وقد أصاب القائمون على التيار الحر حين أبدوا اهتماما بالوضع الاقتصادي في مصر، والذي يتطلب حلولا جذرية قد تتعارض مع منهج الفكر الليبرالي نفسه، وهي مفارقة على التيار حل ألغازها، ففي بلد مثل مصر يعاني أزمة فقر مستعصية لن تصبح الحلول الليبرالية منتجة إذا تجاهلت البعد الاجتماعي.

وفسحت الحكومة المصرية المجال لهذا التيار ولم تحد من تحركاته أو تقيد تصرفاته أخيرا، كأنها على يقين من عدم قدرته على إحداث تغيير ملموس، ما يجعلها تبدو بعيدة عن مصادرة الرأي الآخر الذي تتحدث عنه منظمات حقوقية محلية ودولية، ليس حبا في هؤلاء لكن ثقة بأنهم لن يتمكنوا من تغيير واقع مكبل بقيود متوارثة، وأولويات الشارع فيه تتفهمها الحكومة أكثر من معارضيها.

ويعد بروز التيار الحر راحة للحكومة وقد يصبح عجزا للمعارضة، حيث تدخل القوى المتحالفة في مناوشات بينية حول جدول أعمالها وترتيب الخطط التي تعمل بموجبها، وربما يتصادم مع آخرين في اليسار، وتظهر الحكومة بريئة من دم الجميع، وتربح جولة يمكن أن توظفها في فضح معارضيها وتدلل على عجزهم عن التفاهم.

ولا يزال عجز المعارضة تتحمله أحزابها التي قبل بعضها الدخول في صراعات داخلية والسعي للحصول على مكاسب من الحكومة أنسته الشارع وهمومه، والذي يعد الفيصل في مدى التأثير، فقد استجاب عدد من الأحزاب لسيف الحكومة وذهبها فكانت النتيجة تراجعا تاما، وعملا بلا قيمة سياسية، ما يقلل من أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه تيار اليمين أو اليسار في مصر خلال الفترة المقبلة.

2