تونس والسعودية: علاقات عريقة تتجاوز الحسابات الضيقة

زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تونس اليوم، تمثل امتدادا طبيعيا لعلاقات عريقة بين البلدين، تضرب بعيدا في التاريخ والاستراتيجيا، وتشكّل أحد أساسيات دبلوماسية الدولة التونسية منذ استقلالها، وهو ما كان يصرّ عليه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة الذي طالما تحدث عن زيارتيْه للمملكة في العامين 1948 و1951، وعن الدعم السخي الذي لقيه من الملك عبدالعزيز آل سعود، والذي كان كافيا لتمويل جيش التحرير الوطني، وقد روى الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي كيف أن مؤسس الدولة السعودية قال لبورقيبة “لا تفعل مثل بقية العرب، العرب يتجاهلون الخلافات ثم ينهزمون، ولمواجهة فرنسا عليك بخطة الكر والفر واعتماد المراحل من أجل إرهاقها”، وهو ما تأسس على ضوئه ما سمي لاحقا بسياسة المراحل التي باتت جزءا من التجربة البورقيبية في الكفاح والحكم.
وقبل ذلك، كان الأميران فيصل وخالد، ابنا الملك عبدالعزيز، قد زارا تونس في العام 1943 واجتمعا بالملك محمد الأمين باي وزارا جامع الزيتونة، وتعرفا على الأوضاع في البلاد، وما إن استقلت تونس حتى أدى الملك سعود بن عبدالعزيز زيارة إلى تونس التقى خلالها بالملك وبالوزير الأكبر الحبيب بورقيبة، ثم تبادل البلدان السفراء، فكان أول سفير للرياض بتونس هو المرحوم عبدالرحمن البسام الذي شغل قبل ذلك وظائف مهمة حيث عمل في كل من الديوان العام لوزارة الخارجية، ثم في وفد المملكة الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم في السفارة السعودية في القاهرة، ثم سفيرا للمملكة لدى جمهورية باكستان فوكيلا للخارجية، قبل أن ينتقل للعمل بالعاصمة التونسية التي أرسلت بدورها أول سفير لها في الرياض وهو الأديب والدبلوماسي محمد العروسي المطوي.
وفي العام 1965 أدى بورقيبة زيارة إلى السعودية استمرت عدة أيام، اجتمع خلالها بالملك فيصل وتنقل بين الرياض وجدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة حيث أدى العمرة، وتم الإمضاء على اتفاقيات تعاون بين البلدين سرعان ما تدعمت بعد أقل من عام، خلال الزيارة التي أداها الملك فيصل إلى تونس ضمن جولة أفريقية شملت عددا من دول المنطقة كان من بين أهدافها تقوية الروابط بين الدول الإسلامية وتأسيس مؤسسة دولية تقوي العلاقات بين الدول المسلمة، وقد لقيت تلك الفكرة ترحيبا من بورقيبة.
وقد استمرت العلاقات بين البلدين على هذا النسق سواء خلال حكم بورقيبة أو زين العابدين بن علي، دون أن تتأثر ببعض الأصوات النشاز التي كانت تعتمد التشدد في التكفير أو التخوين، سواء من هذا الطرف أو ذاك، كما رحبت المملكة بثورة 14 يناير 2011، واستقبلت مسؤولين تونسيين من بينهم الرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي، وحافظت على مبدئها الثابت بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، إلا أن سياسة المحاور في المنطقة بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 في مصر، ومقاطعة قطر في يونيو 2017، وانتشار الإرهاب عبر أدواته المتعددة، وغيرها من ارتدادات ما سمي بالربيع العربي الذي تحول إلى مشروع مشبوه لإسقاط الدول، وتخريب المجتمعات على أسس طائفية ومذهبية وقبلية وعقائدية، جعلت البعض من النخب السياسية تتبنى مواقف تركيا وقطر من جهة، وإيران من جهة أخرى، دون وعي بحقيقة التحولات الاستراتيجية في منطقة المشرق العربي والخليج وصولا إلى القرن الأفريقي، حيث اضطرت الرياض إلى الدفاع عن أمنها القومي وعن الأمن القومي للعرب، ضمن تحالف عربي كان هدفه الأول مواجهة الإرهاب وأطماع القوى الإقليمية ذات الأجندات القومية العنصرية تحت غطاء طائفي لم يعد خافيا عن أحد.
من هذه الانطلاقات، تعرضت الرياض إلى حملات تشنيع وتشويه من قبل قوى الإسلام السياسي التي كانت قبل 30 عاما تتدافع للحصول على الهبات والمكرمات من قادة المملكة، وجمع التبرعات من أثريائها، ومن قبل قوى يسارية وقومية لا تزال مشحونة بشعارات الحرب الباردة، واعتمد البعض على تقارير تستهدف شق ما تبقى من صف عربي، وضرب آخر حصون الأمة وخاصة الرياض والقاهرة، وجاء مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي ليحاول البعض أن يجعل منه حصان طروادة لاستهداف المملكة أو لابتزازها، وهو ما تورط فيه الصغار، بينما أدركت الدول الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرها، أن استقرار السعودية يعني استقرار المنطقة والعالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وأن المساس بها يعني الفوضى التي لن تستثني أحدا.
إن الأمير محمد بن سلمان الذي يقوم بجولة عربية قبل مشاركته في قمة العشرين في بيونس أيرس وقبل أن يجتمع بكبار العالم، كانت له مواقف حاسمة من قضايا المنطقة، وهو يمثّل الجيل الجديد في المملكة، ويحظى بشعبية جارفة في بلاده، وله شرعية الإصلاح الذي بادر به، حيث صنع بهدي من والده الملك سلمان ثورة هادئة في المجتمع السعودي أنصفت المرأة والشباب وحاصرت التطرف وأصوات الفتنة، وأسست لمشروع نهضة كبرى عبر رؤية 2030، وأكدت أن لا عودة لما ساد قبل 30 عاما من انفلات المتشددين، وفتحت أبواب الأمل في غد أفضل للسعوديين، وأعلنت الحرب على الجماعات الإرهابية الطائفية، بشقيها السنّي والشيعي، ومدت أيادي المحبة والتعاون إلى الأشقاء، وما زيارة بن سلمان إلى تونس اليوم، وقبلها الإمارات والبحرين ومصر، وبعدها الجزائر وموريتانيا إلا دليل على ذلك.
ولا شك أن العلاقات التونسية السعودية ستحافظ على قوتها ومتانتها، لأنها بالأساس علاقات عريقة وتقليدية واستراتيجية، وأي محاولات للمساس بها إنما تستهدف الإخلال بعلاقات تونس العربية والإسلامية ووضعها الإقليمي والدولي، وموقعها الذي طالما فخرت به كدولة اعتدال، لا تتأثر بعواصف المواقف الأيديولوجية المتشددة، أو الحسابات الحزبية الآنية الضيقة.