تونس وأزمة الإصلاحات العاجلة

يُنظر إلى الأزمة التي تمرّ بها تونس على أنها معقدة ويصعب حلّها. صحيح الأزمة مركّبة لكنها ليست كما يحاول البعض وصفها بكونها عصيّة عن الحل. العالم يعيش أزمات بدوره. تونس ليست استثناء. التنسيب ضروري في هكذا حالات. لكن مع التنسيب من المهمّ تشريح الأزمة والوقوف عند أبرز أوجهها ومآلاتها.
تونس اليوم في وضع اقتصادي صعب وجب الوقوف عنده. الاقتصاد مرتبط بدوره بمؤثرات سياسية ووضع اجتماعي حرج. الفقر بين التونسيين بلغ حدا كبيرا لا يجب إنكاره أو التغاضي عنه. ندرة المواد الاستهلاكية أو انعدامها والحديث عن تزويد بعض دول الجوار لتونس، موضوع للاستهلاك الإعلامي لا غير. الاحتكار مفصل رئيسي في أزمة تونس الاستهلاكية. شيء ما يتوجّب على الفاعلين الرئيسيين التوقف عنه والتركيز عليه بعناية، ألا وهي الإصلاحات العاجلة التي يجب أن تباشرها الدولة التونسية آنيا.
أول الإصلاحات هو إصلاح منظومة الإنتاج لتستعيد الدولة أنفاسها وتعود الروح إلى المجموعة الفاعلة في السوق. المقصود بمنظومة الإنتاج كل الهياكل والمؤسسات الاقتصادية التي تعطلت بعد انهيار النظام السابق واندلاع الاحتجاجات في 2011. جل الحكومات التي تعاقبت على البلاد بعد تلك الفترة لم تخطط بما فيه الكفاية أو لم تعط أهمية لهذا الجانب. حريّ بالرئيس قيس سعيد أن يخوض غمار هذه التجربة ويفتح الباب أمام استصلاح هذه المنظومة والتركيز على أبرز الاختلالات التي حالت دون عودتها إلى النشاط.
◙ إضافة إلى الإصلاحات العاجلة التي يتوجب أن تباشرها الدولة آنيا، هناك إصلاحات تتطلب فترة زمنية وتأخذ وقتها الكافي، وجب التخطيط لها لتكون على مراحل أو ربما لسنوات
منظومة الإنتاج عنصر أساسي في إيرادات الدولة وتزويد السوق. لكن بالتوازي مع محاولة عودة الروح إلى بعض القطاعات الحيوية وجب على الدولة أن تهتم أيضا بمسالك التوزيع، وأن تعود هي المتحكم في السوق الوطنية للقطع مع كل أشكال المضاربة والاحتكار.
بعد سقوط الدولة وانهيار نظام زين العابدين بن علي وعلى مدى 12 عاما لم تركز تونس على دعم إنتاجها المحلي أو على بعض القطاعات التي تغطي احتياجاتها من المواد الاستهلاكية الضرورية. فقدت البلاد أغلب مراكز التجميع التي باتت تتحكم بها لوبيات السمسرة وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، التي لا تمنح فرصة للسوق بأن تكون متوازنة. هنا مربط الفرس ومكمن الداء الذي كان من الأولى الانتباه إليه منذ أمد بعيد والتركيز عليه. لكن دعاة الدفاع عن انهيار الدولة وجل الحكومات المتعاقبة، لكي لا نقول جميعهم، تركوا الحبل على الغارب وكان همّهم مركزا على الهرولة إلى الصناديق الدولية باعتبارها طوق النجاة الوحيد لإسكات الناس، عوض وضع برامج وإستراتيجية واضحة للعمل تفيد الدولة والمواطنين على السواء، وتكون الدولة هي المتحكم الأساسي في السوق.
المفصل الثاني في هذه الإصلاحات هو رفع الدعم الذي تواتر الحديث عنه بإطناب خلال الفترة الماضية، عندما قررت تونس الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض. الأساس في هذا الباب أن يكون فرصة للقيام بمراجعة كاملة لفكرة الدعم من الأساس، تشريعيا وهيكليا، وأن ينصبّ تركيز الخبراء والمختصين بإشراف الدولة طبعا على القيام بإصلاحات جذرية في هذا الباب. لا أن يكون الأمر ضبابيا للناس الذين باتوا متخوفين من مصير مجهول وسط مضاربة كبيرة وشحّ في المواد الغذائية.
هنا المصارحة تبدو أكثر من ضرورية بعيدا عن اللغة المشفّرة والاتهامات المرمية من هذا الجانب أو ذاك. فرصة المصارحة واجبة لبث الطمأنينة ومنح جرعة إضافية للناس ليكونوا على بيّنة، ويحاولوا التأقلم مع الوضعية التي تمر بها تونس كغيرها من دول العالم، التي تعيش أزمة متأثرة بدورها بالضغوط الخارجية نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية.
◙ تونس اليوم في وضع اقتصادي صعب وجب الوقوف عنده. الاقتصاد مرتبط بدوره بمؤثرات سياسية ووضع اجتماعي حرج
إضافة إلى الإصلاحات العاجلة التي يتوجب أن تباشرها الدولة آنيا، هناك إصلاحات تتطلب فترة زمنية وتأخذ وقتها الكافي، وجب التخطيط لها لتكون على مراحل أو ربما لسنوات. الأمر يهم الثالوث الحيوي لأيّ اقتصاد في العالم ألا وهو قطاعات النقل والصحة والتعليم. تونس اليوم تعيش على وقع ثالوث شبه معطل أو يكاد يكون في حالة موت سريري.
من الضروري البحث عن مخارج للأزمات التي تعيشها هذه القطاعات الثلاثة. أسطول النقل الذي يتناقص كل سنة إلى النصف ثم إلى الربع تقريبا دلالة واضحة على ما تعانيه البلاد من إشكاليات لم يعد من الممكن السكوت عنها وعدم مباشرتها. قطاع التعليم الذي فقد أهليته وغيّبت المدرسة العمومية لصالح المدارس الخاصة بتكاليفها المرهقة لكاهل التونسي آن الأوان لمراجعته والقيام بإصلاح شامل يعيد للقطاع حيويته. الصحة بتجربتها المريرة مع فترة الجائحة أعطت الضوء الأحمر على أن تونس لم تعد مقصدا للعلاج مثلما كان الحال عليه قبل سنوات.
أزمات تونس تتزايد وتستفحل مقابل مشهد سياسي يعلوه التشرذم والأنانية. الكل يفكر بمنطق الأنا لا بمنطق أن لنا دولة مريضة وجب الالتفات لها ومحاولة إنقاذها. بانتظار لحظة صحوة يكون الحوار أساسها والرؤية العميقة ديدنها للنهوض، يبقى الوضع منفتحا على سيناريوهات نتمنى جادين أن تتغير إلى ما هو أفضل.