تونس.. لقاءات السياسة الموازية

لقاء راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية، وحافظ قائد السبسي، رئيس الهيئة السياسية لحركة نداء تونس، الاثنين الماضي، أثار جدلا كبيرا وأفرز مواقف تراوحت بين الرفض والتبرير. جاء إعلان اللقاء من قبل راشد الغنوشي، نفسه، على صفحته الرسمية على فيسبوك، وكان الإعلان مقتضبا واكتفى بالإشارة إلى أن الاجتماع تناول الوضع السياسي العام في البلاد.
تسليط الضوء على المواقف المتفاعلة مع “الحدث”، سواء من الأطراف الندائية أو النهضوية، كفيل بتبين أن اللقاء انعكاس صادق لهشاشة الوضع السياسي في البلاد، وهو وضع لا يخضع للقواعد السياسية التي تحدد التحالفات والمواقف والحدود الدنيا المشتركة، ولا يلتزم بما تفرزه النتائج الانتخابية من موازين قوى واصطفافات تظل سارية المفعول حتى إجراء انتخابات أخرى.
المسافة الفاصلة بين التهليل للاجتماع من منطلق كونه من أمثلة السنن الحميدة للمشاورات السياسية، وبين رفض ما يمكن أن يؤدي إليه من عودة الحرارة للعلاقة بين الحزبين، هو ما يمكن أن نقرأ من خلاله الحدث باعتباره تعبيرا دقيقا عن الالتباس الذي يسود الوضع التونسي، وباعتباره أيضا مؤشرا يمكن أن نستشرف من خلاله المستقبل القريب لوضع البلد ولمستقبل العلاقة بين الحزبين والشيخين.
تأكيد المنجي الحرباوي القيادي في نداء تونس أن لقاء الغنوشي والسبسي الابن هو “لقاء عادي يتنزل في إطار الحوارات التي يجريها الحزب مع مختلف الفاعلين السياسيين لمناقشة الأوضاع العامة في البلاد” يتناقض في القراءة والاستتباعات، مع اعتبار أحمد المشرقي عضو المكتب السياسي لحركة النهضة أن “النهضة تريد تحويل توافق الضرورة إلى توافق القناعة”.
في خلفية اللقاء وما خرج من تفاصيله للعلن، أنه بحث تنظيم الانتخابات القادمة، وأنه أكد “سعي النهضة والنداء أن تتم الانتخابات في وقتها وفي مناخات مناسبة”. ولعل المعلن من اللقاء هو من قبيل البديهيات التي تجمعُ عليها كل القوى السياسية، وهو ما يشي بأن مساحة المخفي من تفاصيل الحوار أكبر من المعلن. فجئية اللقاء والمعلومات القليلة التي رشحت منه، والتناقض في تقييمه بين القيادات السياسية للحزبين، كلها عوامل تضافرت لتفتح الأبواب على مصراعيها أمام كل التأويلات الممكنة. أول التأويلات عودة الود بين الحركتين أشهر قليلة قبل الاستحقاق الانتخابي، وأقرب التأويلات لهوى الحزبين الموقف من رئيس الحكومة الشاهد وحكومته وطموحاته التي ترجمها بالتحرك الحثيث نحو تأسيس حزبه.
عودة الودّ بين الحزبين “اللدودين” لا تمثل العمق الوحيد للقاء، بل إن الأعمق هو ما يمكن أن يعكسه اللقاء من الأعطاب التي تشوب الوضع السياسي. أعطاب تأكدها مظاهر كثيرة، أولها أن المشهد السياسي في تونس لا تسيره المؤسسات بقدر ما تحكمه اللقاءات والأهواء الشخصية بكل ما تعنيه من زعاماتية وشخصنة وانتظارية وتركيز مكثف على دور الزعيم أكثر من إحالة الأوضاع إلى القواعد المؤسسية. ثاني تمظهرات الهشاشة كامن في أن المشهد التونسي، لا يخضع للآثار التي تنتجها العملية الانتخابية مثل ما يحدث في سائر بلدان العالم. تهملُ نتائج الانتخابات بما تتصل به من برامح سياسية وكتل وأحجام وتحالفات، لتحل محلها تحالفات ضرورة أو توافقات نفعية سريعة الإنجاز والإلغاء، مثلما كان الأمر سابقا حين انتقل العداء بين النهضة والنداء الذي كان محور برامجهما الانتخابية، إلى تحالف هيمن على السلطتين التشريعية والتنفيذية.
كان يمكن أن يكون لقاء راشد الغنوشي بحافظ قائد السبسي عاديا ولا يثير هذا الجدل من الرفض والتبرير، لو لم يحدث في ظرفية موسومة بانطلاق مبكر للعملية الانتخابية وباشتداد الخصومة بين رئيس الحكومة وحافظ قائد السبسي وبمضي الأول نحو تحقيق استقلاله عن الحزب الذي دفع به إلى صدارة المشهد. وفي خلفية اللقاء انشغال النهضة بالتهم السياسية والفكرية، التي توجه لها من قبل خصومها وحلفائها القدامى وحتى من أبنائها. التقاء انشغالات النهضة بسعي نداء تونس إلى ترميم بيته المتداعي، مثل نقطة دفعت إلى اللقاء، وإلى بحث الحد الأدنى المشترك قبل الانتخابات القادمة.
توافق الضرورة الذي أنجز منذ سنوات، سيظل توافق ضرورة وإن ادعى أحد طرفيه إمكانية تحوله إلى تحالف قناعة، فالظروف الموضوعية التي فرضت إجراء التحالف الهجين السابق لم تعد نفسها، وبصرف النظر عما يروّج من تساؤلات حول مباركة الرئيس الباجي قائد السبسي للقاء من عدمه، فإن ذلك لا يحجب أن طرفي اللقاء دخلاه بجروح سياسية بليغة لا يمكن مداواتها بلقاء مباغت في ظرف ملتبس. لن ينجح النداء في استرجاع قواعده الغاضبة من التحالف القديم، وفي استرداد أصواته التي استقطبتها أهواء سياسية أخرى، ولن توفق النهضة في تلافي اعتمالها الداخلي ولا في تفادي الشواهد الجديدة لوجود الجهاز السري داخلها. اللقاء الذي كان تأكيدا على أعطاب المشهد التونسي، كان أيضا رقصة الديك المذبوح بالنسبة للنداء وكان تكتيكا نهضويا لاستقطاب ما يمكن استقطابه من العائلة الندائية ولتقليص دائرة الخصوم.