تونس في مهب الاحتجاجات مع تفاقم الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية

تونس - حذّر مراقبون من تفاقم الأوضاع في تونس التي تعيش منذ عدة أيام على وقع مظاهرات مستمرة في العاصمة ومدن أخرى، احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والتهميش.
وتتزامن الاحتجاجات مع حلول الذكرى العاشرة لثورة الياسمين التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، والتي كان يمني الكثير من التونسيين أنفسهم بأنها ستفتح لهم آفاقا أرحب نحو مستقبل أفضل.
ويبدو أنّ صبر التونسيين قد نفد بعد تعاقب 5 رؤساء و9 رؤساء حكومات عقب ثورة 2011، دون أن يتمكن أحدهم من إقناع السواد الأعظم من الشعب بأنه يعمل على ضبط بوصلة البلاد في الاتجاه الذي يرتقي إلى تحقيق تطلعات التونسيين، فالوضع يزداد تدهورا والأفق يزداد انسدادا، بحسب الكثير من المراقبين.
وترى الباحثة في الشؤون المغاربية سهام عزوز أن جميع الحكومات المتوالية على تونس مسؤولة عن الوضع المتردي الذي أسفر عن الاحتجاجات الشعبية، لأنها اختارت “سياسات خاطئة” لحل الأزمات المتراكمة.
وتأتي الاحتجاجات هذا العام امتدادا لتحركات مماثلة لم تخل منها سنوات ما بعد الثورة، وقد أججها تعنيف شرطي لراعي أغنام في مدينة سليانة شمالي تونس.
والأربعاء، كشف وزير الدفاع التونسي إبراهيم البرتاجي عن معلومات تفيد بتحرك عناصر إرهابية لاستغلال الاحتجاجات التي تشهدها البلاد.
وقال البرتاجي، خلال جلسة برلمانية مخصصة لمناقشة الاحتجاجات، إن “المؤسسة الأمنية توفرت لديها معلومات عن تحرك عناصر إرهابية لاستغلال التحركات الليلية للقيام بعمليات إرهابية لضرب أمن واستقرار البلاد”، دون أن يقدّم أي تفاصيل أخرى بشأن هوية الجماعة الإرهابية التي تنتمي إليها هذه العناصر.
وتحدث عن “ضبط بعض العناصر التكفيرية” (الإرهابية)، مؤخرا، ومصادرة أسلحة بيضاء وزجاجات مولوتوف (حارقة) كانت بحوزتها.
ومساء الثلاثاء، دعا المشيشي في كلمة موجهة إلى الشباب الغاضب، كافة الأطراف الشعبية والمدنية والحزبية في بلاده إلى “عدم الانجرار وراء حملات التجييش والتحريض، وعدم اللجوء إلى العنف وبث الشائعات وإرباك مؤسسات الدولة”.
وقال إن “الأزمة حقيقية والغضب مشروع والاحتجاج شرعي، لكن الفوضى مرفوضة وسنواجهها بقوة القانون وبوحدة الدولة”، مشدّدا على أن “حق الاحتجاج مكفول بنص الدستور ودوري الحفاظ على سلميته، هو مكسب أتت به ثورة الحرية والكرامة (ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي)”.
وانتقد المشيشي “الشغب والنهب والتكسير والاعتداء على الممتلكات"، معتبرا أن “هذه الممارسات من فعل منحرفين”.
وأعرب عن تفهمه “لحالة الاحتقان والغضب في العديد من المناطق، فالوضعية الاجتماعية والاقتصادية متأزمة، وعمقتها أزمة كوفيد - 19 وتداعياتها الاقتصادية وما صاحبها من إجراءات ضرورية”.
ولاقت تصريحات رئيس الحكومة استهجان الكثير من التونسيين، إذ أجمع أغلب نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي على أن كلمة المشيشي لم تطرح أي حلول عملية للأزمات التي تعصف بالبلاد، واعتمدت خطابا ذا "لغة خشبية" لا تقدّم خطوات ملموسة نحو حلّ اقتصادي من شأنه أن يهدئ من وقع الاحتجاجات المتنامية.
وفي هذا السياق، حذّر الاتحاد العام التونسي للشغل من “انفجار اجتماعي مرتقب نتيجة انشغال الائتلافات الحاكمة منذ 2011 بالمواقع وتقاسم الغنائم، ومواصلة اتباع الخيارات السياسية اللا شعبية التي أثقلت كاهل الشعب وعمقت فقر غالبيته”.
وبينما خرجت الحكومة التونسية لتبرر إلقاء القبض على المئات ممن شاركوا في المظاهرات التي تخللتها أعمال عنف، عبر وصفها بأنها محاولات للتخريب ونهب لممتلكات خاصة وعامة، رأى اتحاد الشغل أنه “ليس من الحكمة” الاستمرار في حالة إنكار الواقع واقتصار الأمر على الحلول الأمنية.
وتزامنت الاحتجاجات مع تعديل وزاري واسع أجراه رئيس الوزراء هشام المشيشي على حكومته شمل نحو نصف تشكيلتها، وذلك بعد أقل من 5 أشهر من نيلها ثقة البرلمان.
وحذّر محللون سياسيون تونسيون من خطورة أن يفقد المواطنون الثقة في "السياسة والسياسيين”، في ظل خلافات وتنازعات بين السلطات حول الصلاحيات، دون أن يشعر المواطنون بسعي حقيقي من النخبة الحاكمة لتحقيق طموحاتهم.
ويرى المحلل السياسي التونسي بلحسن اليحياوي أن “عدوى” مشاهد العنف انتقلت إلى الشارع بعدما وجدت طريقها أولا داخل البرلمان، حيث احتدمت الخلافات بين الأحزاب مؤخرا ووصلت إلى حد الاعتداء الجسدي، في مشهد استدعى تدخل الرئيس قيس سعيد الذي حذر من أن بلاده على شفا “أزمة نظام”.
وهو توصيف فتح أبواب الجدل حول إخفاق النظام البرلماني وإمكانية العودة إلى النظام الرئاسي، لاسيما في ظل حديث عن خلافات حول الصلاحيات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة.
ويرى هشام العجبوني، النائب في البرلمان عن الكتلة الديمقراطية المعارضة، التي تضم حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، أن التعديل الوزاري الذي أجراه المشيشي مطلع الأسبوع الجاري كان متوقعا في ظل خلافاته مع سعيد، واصفا إياه بأنه “يندرج في إطار الصفقة التي أُبرمت بين رئيس الحكومة هشام المشيشي ونبيل القروي رئيس حزب قلب تونس، وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، قبل منح حكومة المشيشي ثقة البرلمان”.
وأضاف أن هذه “الصفقة” هي التي حتمت ضرورة إجراء تعديل وزاري يخص الحقائب المحسوبة على الرئيس التونسي، إذ تمت الإطاحة بالوزراء المتهمين بالموالاة لسعيد.
وفي الوقت ذاته تعمل أحزاب ممثلة بكتل برلمانية على عزل راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان ورفع الحصانة عن نواب من ائتلاف الكرامة المتحالفين مع النهضة، ومن ضمنهم رئيس الكتلة سيف الدين مخلوف، بسبب “تجاوزات دستورية وقانونية”.
وتُحمّل معظم الأحزاب في تونس حركة النهضة مسؤولية الفشل في إدارة الدولة وفي استشراء الفساد والمحسوبية، وغلبة المصالح الفئوية والحزبية على حساب المصالح العليا للبلاد.
وهذه تجاذبات سياسية متشابكة يشعر المواطن التونسي معها بأنه خارج جميع الحسابات في ظل معاناته من واقع اقتصادي صعب لم يعد يحتمله مع تفاقمه جراء تداعيات أزمة كورونا.
وبلغة الأرقام، يتوقع أن يسجل اقتصاد البلاد انكماشا بنسبة 7 في المئة لعام 2020، فضلا عن نسبة البطالة البالغة 16.2 في المئة والتي تفوق الضعف في عدد من الولايات الداخلية، مع الوضع في الاعتبار أن ثلث العاطلين عن العمل في تونس من حملة الشهادات العليا.
ومن جهتها، رأت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية أن “المظاهرات التي تشهدها بعض المناطق في تونس تبرز عمق الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد، في ظل إحباط شديد يعاني منه المواطنون، نتيجة الفقر وارتفاع نسبة البطالة”.
وقالت الصحيفة إنّ مسؤولين ألمحوا "إلى أنهم سيسعون للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، لسد الارتفاع في احتياجات التمويل الخارجي بالنسبة للدولة، لكن الاقتراض سيعتمد على إصلاحات مؤلمة، لم تكن الحكومات السابقة قادرة على اتخاذها".
وحسب الصحيفة البريطانية فإنّ “تدهور الاقتصاد أدى إلى تقويض الثقة في النظام السياسي والسياسيين الذين ظهروا بعد الثورة التونسية، وساهم ذلك في الصعود السريع في استطلاعات الرأي لعبير موسي، الزعيمة المثيرة للجدل والمسؤولة السابقة في حزب الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي”.
ووجه وباء كورونا ضربة قوية لقطاع السياحة الذي يعتبر ركيزة للاقتصاد التونسي ومصدرا للعملة الصعبة، وأصبح هذا القطاع يعاني من أزمات متواصلة منذ عام 2011، وخسر الكثير من العاملين في المنشآت السياحية وظائفهم التي كانت تعيل العشرات من العائلات.
بموازاة ذلك، تعطلت أنشطة استخراج الفوسفات والنفط في ولايات مثل قفصة وتطاوين في جنوب البلاد، بسبب الاحتجاجات والتظاهرات المطالبة بالتشغيل وتحسين البنية التحتية.
وتراجع إنتاج الفوسفات إلى أدنى مستوياته من نحو 8 ملايين طن سنويا في 2010 إلى 500 ألف طن أو أكثر بقليل في سنوات ما بعد الثورة، وخسرت تونس الأسواق التقليدية في منافسة المغرب ودول أخرى.