تونس.. ذكرى 17 ديسمبر ووقائع الانكفاء

راوح الرئيس التونسي قيس سعيّد مكانه في منطقة الغموض، وتأخرت تونس عن المساهمة في حل مشاكل الجوار وفي تجنيب البلاد مآلات الواقع الخارجي المتحرك.
الثلاثاء 2019/12/17
تحديات كبيرة

ينتظر أن يتوجه الرئيس التونسي قيس سعيّد، بكلمة إلى الشعب التونسي في الذكرى الثامنة للثورة يوم 17 ديسمبر. وحسب ما نقلته مصادر مقربة من الرئيس فإن الأخير سيتقدم بمبادرة سياسية لتحريك الأزمة المتصلة بتشكيل الحكومة.

على أن الواقع التونسي يعيش مشكلات أكثر تركيبا وتعقيدا من أزمة تشكيل الحكومة، ولو أن تلك الأزمة تعتبر اختصارا مكثفا للراهن التونسي.

أنهت تونس العام الثامن من ثورتها، مثخنة بجراح كثيرة جلّها من صنع الطبقة السياسية التي تداولت على حكم البلاد منذ صبيحة يوم 15 يناير 2011. وتبدأ العام التاسع من هذا المفصل التاريخي غير قادرة على تجسير الهوة بين زمن الثورة ومرحلة الدولة. لم تتصالح مع الشعارات والمضامين الاقتصادية والاجتماعية التي صدحت بها الشوارع، ولم تنضبط لمعايير الدولة ومؤسساتها. وظلت البلاد ونخبتها، تراوح التمايل بين اللغتين؛ لغة “ثورة” تحولت في الانتخابات الأخيرة إلى تعبيرات شعبوية، وقواعد “دولة” أصيبت بالتصدع والضعف والارتباك جراء التردد بين تطبيق القوانين وصون الدولة، وبين مقايضة المحتجين ومغازلة الغاضبين. هنا تتحول الذكرى الثامنة، وضمنها الكلمة المنتظرة للرئيس، إلى قادح للأسئلة أكثر من كونها مناسبة للتقييم.

تتداخل الأسئلة المتصلة بالأحوال التونسية، بين الأبعاد الداخلية والأداء الخارجي، ومع عسر الفصل بين البعدين فإن المتابع للراهن التونسي يحق له التساؤل عما حققته البلاد منذ دخلت “عصرها الثوري”، وهل تميزت حقا عن التجارب المقارنة المتصلة بالربيع العربي أم أنها نجحت فقط في تجنب المنعرج العنيف الذي سقطت فيه نظائر عربية كثيرة وما زالت تعاني مفاعيله؟

وربطا بالكلمة التي يزمع الرئيس تلاوتها في ذكرى 17 ديسمبر، والتي يُنتظر أن تتضمن مبادرة لحل أزمة الحكومة، فهي تندرج ضمن ما لوحظ من صمت “رئاسي” تجاه الكثير من القضايا الداخلية والخارجية. صَمَتَ قيس سعيّد عندما كان عليه أن يدلي بدلوه السياسي واكتفى ببعض المواقف الاستعراضية التي لم تخرج عما قدمه منذ حملته الانتخابية. جرت مياه تونسية وإقليمية كثيرة منذ انتخاب قيس سعيّد. أطراف سياسية كثيرة انتقدت تراجع الدور السياسي لقيس سعيد، واكتفاءه حتى الآن ببعض اللقاءات العامة والاستقبالات أو بعض الزيارات لمناطق فقيرة، دون مساهمة فاعلة في تحريك الجمود السياسي الداخلي، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومة أو بغيرها من الملفات العالقة والمتراكمة. لم يسعَ سعيّد إلى تحويل شرعيته الشعبية النابعة من العدد الكبير من الناخبين الذين اصطفوْه، إلى فعل سياسي يحرك المياه الراكدة، ولم يتوصل إلى أن يقف على أرضية صلبة مقابل الشرعيات المشتّتة برلمانيا وسياسيا.

في المـلـمـح الخارجي يزداد غياب سعيّد وضوحا، خاصة في ظل ما تعرفه المنطقة من تغيّرات سريعة، في الجوار أولا وفي المنطقة ثانيا. وعد سعيّد في حملته الانتخابية وفي المناظرات التلفزيونية بأن يحرك الدبلوماسية التونسية ويعيد لها ألقها خاصة في الملف الليبي وفي العلاقات مع الجزائر. لكنه منذ انتخابه لم يكلف نفسه عناء السفر إلى أي قطر خارجي، واكتفى بإيفاد يوسف الشاهد، رئيس حكومة تصريف الأعمال، إلى الجزائر يوم 7 نوفمبر الماضي للقاء عبدالقادر بن صالح الرئيس الجزائري السابق.

ثم هنأ السبت الماضي في اتصال هاتفي الرئيس المنتخب عبدالمجيد تبون. وفي نفس سياق “دبلوماسية القصر”، استقبل سعيّد يوم 10 ديسمبر، بقصر قرطاج، فائز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية، حيث أكد على ضرورة إيجاد تسوية سياسية شاملة تخدم مصلحة الشعب الليبي وعلى أن الشأن الليبي هو شأن تونسي، دون أدنى إشارة أو موقف لما تعرفه ليبيا من تجاذبات داخلية وخارجية، ودون اتخاذ أي موقف، مثلا، من الاتفاق التركي الليبي، رغم سيل المواقف الدولية والإقليمية التي ترتبت عن الاتفاق، ثم صدر بيان رئاسي باهت عن اللقاء ركز على مسائل جانبية من قبيل رفع مستوى التبادل الاقتصادي وتذليل العراقيل التي يعرفها معبر رأس جدير الحدودي.

المفارقة أن الصمت الرئاسي الدبلوماسي يقابل بنشاط حثيث يقوم به رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، في مستوى اللقاءات الكثيرة مع السفراء؛ حيث التقى الغنوشي في فترة وجيزة مع سفراء المملكة العربية السعودية والجزائر والكويت وقطر. يحق للغنوشي بوصفه رأس السلطة التشريعية، إجراء لقاءات دبلوماسية رفيعة المستوى، لكن ذلك يصبح مثيرا للانتباه عندما يتزامن مع انزواء سعيّد وعزلته، مع أن العلاقات الخارجية هي من صميم صلاحياته.

“تحتفل” تونس بالذكرى الثامنة من ثورتها، في واقع ملتبس قوامه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة، والتي عجزت الطبقة السياسية الراهنة عن تفكيك شفرتها، بل عجزت عن تشكيل حكومة يفترض بها التصدي لهذه المشكلات. وتحيي تونس ذكرى 17 ديسمبر في واقع انكفاء دبلوماسي لم تعرف له نظيرا. راوح الرئيس التونسي قيس سعيّد مكانه في منطقة الغموض، وتأخرت تونس عن المساهمة في حل مشاكل الجوار وفي تجنيب البلاد مآلات الواقع الخارجي المتحرك، ولذلك فإن الاحتفال بذكرى 17 ديسمبر هو مجرد احتفال بارد في ظل استمرار الأزمات وتفاقمها.

9