تونس تواجه تحدي السيطرة على ضغوط التضخم

ترجيح ارتفاع أسعار الاستهلاك في 2023 إذا لم تسارع الحكومة لضبط الأسواق.
الخميس 2022/12/15
السلع متوفرة.. الأسعار هي المزعجة

تخوض تونس غمار معركة فاصلة لمعالجة أرقام التضخم، بعدما أدت تداعيات الأزمة في أوكرانيا إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق التجارية المحلية، وذلك في سياق المساعي لحماية اقتصادها ضمن الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة.

تونس – تعكس الأوضاع المعيشية في تونس مع ارتفاع أسعار الاستهلاك أن الحكومة أمامها الكثير من الأوراق التي لم تستخدمها بشكل كلي لمواجهة هذه المحنة التي تسببت فيها الحرب في شرق أوروبا.

وفي وقت بدأت الأسعار عالميا، تسجل بعض التراجع النسبي لبعض القطاعات، إلا أن تونس ما زالت تشهد تضخما قويا، قد ينتقل مع المواطنين إلى العام المقبل.

وفي مطلع هذا الشهر، أعلن معهد الإحصاء الحكومي ارتفاع نسبة التضخم في البلاد إلى 9.8 في المئة خلال نوفمبر الماضي، بعدما كانت عند نحو 9.2 في المئة في الشهر السابق له.

ونشر المعهد بيانات أشار فيها إلى “استمرار وتيرة ارتفاع التضخم في السوق المحلية”، ليبلغ أعلى مستوى منذ بداية تسعينات القرن الماضي.

محسن حسن: الدولة تتحمل المسؤولية عن احتكار توريد السلع وتوزيعها
محسن حسن: الدولة تتحمل المسؤولية عن احتكار توريد السلع وتوزيعها

ويطالب الرئيس قيس سعيّد في كل لقاءاته برئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزراء حكومتها، بالتحكم في الأسعار، محملا الاحتكار وأطرافا لم يسمها المسؤولية عن ذلك، في إشارة إلى المعارضة.

ولكن كل المحاولات التي تقوم بها الحكومة والوزارات المعنية، وفي مقدمتها وزارة التجارة وتنمية الصادرات، لم تحقق أهدافها، حتى إن العديد من السلع اختفت من أرفف المتاجر في الأشهر الماضية، مما ولد حالة احتقان لدى التونسيين.

وقال الخبير الاقتصادي معز حديدان إن “ارتفاع الأسعار مرتبط بأسباب ظرفية مثل التضخم في العالم، وندرة بعض المواد في تونس، وهذا أمر عادي ويوجد في كل العالم ويسمى تضخما مستوردا”.

وأضاف حديدان لوكالة الأناضول “هناك أيضا أسباب هيكلية مثل قنوات التوزيع وبعض الاحتكار (لوبيات)، فبعض المواد تتحكم فيها أربع أو خمس شركات في تونس”.

وضرب الخبير الاقتصادي المثل بـ”تجارة أعلاف الماشية التي تتحكم فيها أربع شركات، وأي تاجر بسيط لا يمكن له أن يورد لوحده.. لأن التوريد يكون بكميات كبيرة”.

ووفق حديدان، هناك آلية ثانية متسببة فيها الدولة، وهي ارتفاع أسعار المواد المدعمة، فالدولة ذاهبة في برنامج إصلاح مع صندوق النقد الدولي لتخفيض الضغوط على الميزانية العامة برفع الدعم عن بعض المواد.

وأبرز المواد الاستهلاكية الأساسية التي جرى خفض الدعم عنها، المحروقات بأنواعها، في حين ينتظر التونسيون مصير الدعم على الدقيق والحبوب والسكر، التي لم تتخذ الحكومة بعد قرارا بشأنها.

ويعاني البلد من أزمة مالية واقتصادية بسبب استمرار تداعيات الأزمة الصحية ثم عمّقتها انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية، وسط محاولات من السلطات لتعديل الأوضاع مع اقتراب حصول تونس على قرض من الصندوق.

وكانت تونس قد اتفقت قبل أسابيع مع صندوق النقد الدولي على خطة إصلاح يصفها خبراء بـ”القاسية”، تتضمن خفضا في الدعم وتقليصا في فاتورة الرواتب، للحصول على قرض بقيمة تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار.

ويذهب وزير التجارة الأسبق محسن حسن في الاتجاه ذاته الذي ذكره حديدان بالقول إن “ارتفاع الأسعار معضلة كبيرة، والمشكلة تأتي أساسا من السلع التي تحتكر الدولة توريدها وتوزيعها وتحدد أسعارها”.

39.5

في المئة من إجمالي العجز في قطاع الطاقة، مقابل 1.4 مليار دولار على أساس سنوي

وأضاف أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية أن “المواطن التونسي يشتكي من ارتفاع أسعار المحروقات، ومواد أخرى سترتفع أسعارها بحكم توجه الدولة لرفع منظومة الدعم مثل الحليب والحبوب وغيرهما”.

وفي نوفمبر الماضي، أقرت الحكومة زيادة في أسعار الوقود هي الخامسة خلال العام الحالي، في إطار برنامج تعديل أسعار المشتقات النفطية وللضغط على تكلفة التوريد.

وتجاوز العجز التجاري لقطاع الطاقة في الفترة بين يناير ونوفمبر الماضيين 2.9 مليار دولار، وهو ما يمثل نحو 39.5 في المئة من إجمالي العجز، مقابل 1.4 مليار دولار على أساس سنوي.

وقال حسن “هناك أسعار حرة تحدد بقانون العرض والطلب، فإذا ارتفعت كلفة الإنتاج ترتفع الأسعار بصفة آلية”.

وأضاف أن “ما يحدث بصفة عامة يؤدي إلى ارتفاع كلفة الإنتاج، لأنه عندما ترتفع أسعار الطاقة وأسعار الفائدة البنكية وكلفة النقل، واليد العاملة، فإن كلفة الإنتاج ترتفع وبالتالي الأسعار ترتفع”.

وفي خضم هذه المشاكل يرى الخبراء أن المزارعين لا يمكنهم مواصلة الإنتاج بالخسارة، بالنظر إلى تكاليف التوريد الباهظة.

وقال حديدان إن “المواد الغذائية لا قدرة للدولة على توريدها ولا قدرة لها على مواصلة دعم الفلاحين، فأصبحت هذه المواد نادرة مثل الحليب.. لا يمكن للفلاح أن يواصل الإنتاج بخسارة”.

معز حديدان: قنوات التوزيع ولوبيات الاحتكار متسببة في المشكلة
معز حديدان: قنوات التوزيع ولوبيات الاحتكار متسببة في المشكلة

وأضاف “الدعم لم يُرفع، لكنه رفع بطريقة أخرى، ذلك أن الدولة لم تعد تدفع، والمواد ارتفعت أسعارها لقلة هامش الربح للمنتجين، والمواد ليست موجودة، لو رفعت الأسعار لكان أفضل”.

والأسبوع الماضي، نفذت المخابز التونسية إضرابا للمطالبة بتسديد مستحقات لها على الدولة، والتي تتمثل بالفارق بين السعر الحقيقي للخبز والسعر الذي يباع به للمستهلكين.

ويقدّر أصحاب المخابز حجم تلك المستحقات بنحو 250 مليون دينار (75.75 مليون دولار)، عن 14 شهرا.

ويعتقد حديدان أن ثمة حلّين للتضخم، إما أن تحصل الدولة على منح خارجية أو قروض وتواصل الدعم، وهذا صعب لأن الدولة إذا حصلت على قروض هذا العام، فماذا ستفعل في العام المقبل. وإما أن تلغي الحكومة الدعم وتحرر الأسعار والإنتاج والسعر يخضع لقانون السوق.

ويرى حديدان أن الحل البديل الوحيد هو الذهاب في التحرير الجزئي للأسعار “وتلك هي حدود قدرة تونس، فنحن دولة ليست غنية”.

ومن المتوقع ألا تراجع الأسعار، وتصب الترجيحات في أن يصل التضخم إلى خانتين اثنتين قبل نهاية العام، وسيواصل الارتفاع خلال النصف الأول من العام المقبل.

وقال حسن إن “أسبابا عديدة تفسر هذا، منها التضخم المستورد نتيجة تراجع الدينار بنسبة 23 في المئة منذ الخامس والعشرين من يوليو 2021 أمام الدولار”.

وأشار إلى أسباب نقدية للتضخم، ملفتا إلى أن “الدولة، والخزينة العامة، تلجأ بصفة مفرطة إلى النظام المالي والمصرفي لتمويل احتياجاتها هذا العام”.

ويرى الخبير التونسي أن “اللجوء المفرط إلى الاقتراض من النظام المصرفي الداخلي، يؤدي إلى ارتفاع التضخم، بضخ سيولة دون أن يقابلها ارتفاع للإنتاج والنمو”.

11