تونس تنفض غبار البيروقراطية بمراجعة شاملة لنظام المناقصات

يشكل تأكيد المسؤولين في تونس أن نظام المناقصات العامة يحتاج إلى مراجعة شاملة دليلا على عدم جدواه في خضم محاولات الإصلاح البطيئة باعتباره إحدى أدوات البيروقراطية، التي ظلت جاثمة على دواليب الدولة، وخاصة في ما يتعلق بالمشاريع الحكومية.
تونس - تسعى تونس إلى إحداث انقلاب في طريقة إسناد المناقصات العامة في مشاريع التنمية الرئيسية، والتي لطالما أكدت التجارب والتقارير المحلية والدولية أنها تحتاج إلى إعادة النظر فيها حتى تصبح أكثر كفاءة.
ومع أن استيقاظ الحكومة الحالية، من خلال كلام وزيرة التجهيز سارة الزعفراني، يبدو متأخرا كثيرا، في ظل وجود الكثير من الدلائل على أن إسناد المناقصات العامة به خلل، لكنه في الوقت نفسه يبعث برسائل بأن هذا الملف سيكون أولوية في المرحلة المقبلة.
وتستعد تونس، التي تمر بأزمة اقتصادية ومالية خانقة جراء انعكاس الأزمات الخارجية في شكل تضخم جامح أثر على القدرة الشرائية للناس في السوق المحلية، لإجراء انتخابات رئاسية الشهر المقبل.
وتتسم المشاريع الحكومية الكبرى في الغالب بالبطء، ليس فقط بسبب ما يتعلق بمسائل إسناد المناقصات، ولكن أيضا مشاكل التمويل وسرعة التنفيذ والجودة، وكلها عوامل جعل إتمام العشرات من الاستثمارات في الموعد المتفق عليه يتأخر.
وهناك الكثير من المشاريع وخاصة البنية التحتية مثل الطرقات السريعة وقنوات الصرف الصحي وحتى توزيع المياه أو إعادة تهيئة بعض المنشآت مثل الملعب الأولمبي بالمنزه شمال العاصمة تونس، تؤكد أن الدولة عليها أن تتحرك بشكل أسرع.
وشددت الزعفراني خلال الندوة الدورية للمديرين الجهويين للتجهيز والإسكان السبت الماضي، على ضرورة مراجعة إسناد الصفقات العمومية، بما يضمن تشريك شركات المقاولات القادرة على إنجاز المشاريع الحكومية الكبرى.
وتتولى الإدارات الجهوية للتجهيز الإشراف على المشاريع العمومية، بما فيها المتعثرة وتعمل على تسريع وتيرة إنجازها مع الدفع بتعزيز الاستثمار في الجهات.
وقالت الوزيرة “يجب التنسيق المسبق، بما يمكن من تحويل الشبكات خارج حوزة المشروع قبل الانطلاق في التنفيذ أو بحث سبل إدراجها ضمن بنود الصفقة الأصلية لتفادي حصول أي تأخير أو تعطيل في تنفيذ المشاريع والالتزام بالآجال التعاقدية”.
وبحسب وكالة الأنباء التونسية الرسمية، فقد أكدت الزعفراني وجوب انتهاج مقاربة جديدة للعمل في الإدارات الجهوية للتجهيز والإسكان. وكذلك، اعتبرت أن الوضع يقتضي اعتماد خطة عمل تتماشى مع التوجه الجديد للحكومة في “حلحلة المشاريع العمومية الكبرى”، وخاصة المتوقفة منها.
وركزت الوزيرة على جوانب أخرى، منها اقتراح الحلول العملية والعاجلة التي من شأنها أن تحل مختلف المشاكل التي تعترض سير إنجاز المشاريع.
ويكشف المسار المتذبذب للمشاريع عن هشاشة المنظومة الإدارية، إذ لم تتمكن المؤسسات من التكيف مع تدابير الرقمنة البطيئة أصلا نظرا للطابع التقليدي الغالب على التعاملات، ما فتح الباب للتجاوزات القانونية، في ظل غياب تقنيات حديثة تكشف آثار الفساد.
ولم تكن متطلبات التحولات الرقمية وليدة الوقت الراهن، فقد كانت ضمن أجندات الحكومة خلال 2005 عندما احتضنت البلاد أول قمة معلومات في المنطقة العربية، ورغم مرور كل هذه الأعوام لا تزال البلاد ترزح تحت وطأة البدائية في التعاملات.
وتشير التقديرات إلى أن عدد مشاريع الوزارة التي هي في طور الإنجاز 104 مشاريع بكلفة تناهز نحو 4.5 مليار دينار (1.47 مليار دولار) خلال العام الحالي والمقبل.
ومن المقرر الانتهاء من بعض مشاريع البنية التحتية التي تم التخطيط لها مع نهاية العام الحالي بكلفة إجمالية تبلغ حوالي 703 مليون دينار (229.2 مليون دولار).
وتقول الوزارة إن عدد المشاريع التي سينطلق إنجازها خلال العام المقبل يصل إلى قرابة 15 بكلفة تقدر بنحو 2.12 مليار دينار (690 مليون دولار).
ومشاكل مناقصات وزارة التجهيز هي جزء بسيط من مشاكل كثيرة تتعرض لها الوزارات الأخرى بسبب الثغرات التي تعتريها، وهو ما يعتبره البعض نوعا من أنواع الفساد رغم أن السلطات تعمل على إخماد كل التحركات على هذه الجبهة.
ويجمع خبراء على أن المعركة التي أطلقتها السلطات على الفساد لا تزال تسير ببطء، وخاصة في ما يتعلق بالمناقصات الحكومية، الأمر الذي يتسبب في خسائر بملايين الدولارات سنويا للدولة التي تبحث عن مخرج لأزماتها المزمنة.
وزاد منسوب الفساد الإداري والمالي والتهريب في جميع مفاصل الدولة منذ 2011 بشكل لم يعد معه يمكن التغاضي عنه باعتباره أحد أبرز العوامل التي تكبل النمو، فالبيانات تشير إلى خسائر سنوية للبلاد تقدر بنحو 830 مليون دولار.
وعلى سبيل المثال، كشفت بيانات في أبريل 2018 عن عجز الدولة عن بناء أرضية صلبة لمكافحة الفساد بعد أعلنت الحرب على اللوبيات التي تنخر في الخفاء اقتصاد البلاد المنهك.
◙ 1.47 مليار دولار قيمة 104 مشاريع تعمل وزارة التجهيز على تنفيذها، وفق البيانات الرسمية
وأكدت هيئة مكافحة الفساد في تقرير حينها أن ربع مناقصات المشاريع الحكومية يلتهمه لوبي من الفاسدين، وأن تلك الخسائر تأتي نتيجة لسوء تصرف المسؤولين، وهو ما يثقل الموازنة ويجعل الدولة في عجز دائم.
ويشير هذا الرقم إلى أن حجم الفساد في المناقصات اتخذ منحا تصاعديا، حيث سجلت الدوائر الاقتصادية الرسمية في السنوات الخمس الأولى من الإطاحة ببن علي تحايلا كبيرا في حدود 18 في المئة فقط.
وبالرجوع إلى المؤشرات الصادرة منذ عام 2012 وحتى العام الماضي، يمكن ملاحظة أن تونس لم تغادر المراكز الفاصلة بين 73 و87 عالميا في تصنيف منظمة الشفافية الدولية، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك بأن البيروقراطية لا تزال متغلغلة في مفاصل الدولة.
وحافظت تونس خلال 2024 على نفس عدد الدرجات في مؤشر مدركات الفساد مقارنة بالعام الماضي، حيث تحصلت على 40 نقطة من أصل 100 محتلة بذلك المرتبة 87 عالميا من أصل 180 أي أدنى مرتبة لها منذ 2012.
وهذه المراكز المتدنية لا تبعث الثقة بالاقتصاد التونسي، كما أنها قد تؤدي إلى عواقب غير متوقعة، حيث إن المستثمرين يركزون على مثل هذه التصنيفات كونها تحدد وجهة رؤوس أموالهم.