تونس تقبر أسطوانة الرئيس يصنعه الخارج

الناخب التونسي يقطع في انتخابات الرئاسة مع نظرية مزمنة مفادها "تصوت أو لا تصوت فإن الرئيس هو صنيعة الغرب والخارج".
الخميس 2019/09/19
سباق محموم للوصول إلى قصر قرطاج

قفلت تونس الثلاثاء جدل نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية، وذلك بإعلان مرور كل من قيس سعيّد الخبير في القانون الدستوري، وكذلك نبيل القروي صاحب القناة التلفزيونية “نسمة” والقابع في السجن إلى الدور الثاني.

كلّ الآراء والمواقف الانطباعية المتسرّعة في المشهد السياسي التونسي، ذهبت بطم طميمها للإجماع ولحصر المسألة في حقيقة تكاد تكون واحدة تتوزع بين الناس بروايات مختلفة، وهي أنّ الديمقراطية الشعبية تمكّنت من هزم المنظومة القديمة أو ما يعرف بـ”السيستام”، بما في ذلك من حكموا بعد ثورة يناير 2011 وتحديدا حركة النهضة الإسلامية.

لكن التمعّن بشكل جيّد في ما أفرزته صناديق الاقتراع خلال الدور الأول من الانتخابات الرئاسية يفرض أيضا ضرورة الخروج باستنتاجات وخلاصات أخرى أعمق ربما ممّا يتم ترديده في جلّ المنابر الإعلامية، حيث تستوقفك بالضرورة نقطة على غاية من الأهمية وهي أنّ الناخبين قطعوا مع قاعدة ومع نظرية ظلت ترافق مخيّلة التونسيين طيلة عقود، وتكمُن في كسر وقبر ذلك “الديسك” المشروخ الذي يرفع شعار “تصوّت أو لا تصوّت فإنّ الرئيس هو صنيعة الخارج” أو أنه سيكون حتما معيّنا من دول الغرب.

تختلف التقييمات في تونس، بشأن توجّهات وخيارات الناخبين في 2019، بين من يبخّس إرادتهم وبين من يُعظّم شجاعتهم وقدرتهم على صفع منظومة الأحزاب التقليدية والكلاسيكية، لكن دعنا نتحدث عن الناخبين أنفسهم وخاصة من الذين صوّتوا لفائدة نبيل القروي أو قيس سعيّد، فهم لم يدركوا إلى الآن أنهم كسروا نمطية التعليقات المرافقة لكل نتائج انتخابات، حيث عمد الخاسرون في المحطات السابقة إلى نعت الفائز بأن شرعيته منقوصة، وبأنه لا يعدو أن يكون سوى صنيعة دوائر أجنبية راهنت على إيصاله إلى دفّة الحكم في قرطاج، وهو ما حصل فعلا في مختلف المحطات الانتخابية التي تلت ثورة يناير 2011.

في الحقيقة، إنّ الحديث عن قوة تأثير الخارج أو دوره في حبك المؤامرات لتوجيه إرادة الناخب وتزييفها وحصره في دور “الكومبارس” الخاضع والمنفّذ لما تريد أن تمليه القوى الكبرى قصد صناعة رئيس معيّن لقيادة البلد، لم يكن نتاجا فقط لما رُوي بعد الثورة بل إن له امتدادات وجذور وليدة ثقافة انتخابية أفرزتها عقود خلت.

إن المتابع الجيّد لفترتيْ تسعينات القرن الماضي والألفينات في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، يُدرك كامل الإدراك أن المنظومة القديمة، كانت من أكبر المساهمين في خلق في نظرية “الغرب والخارج” التي جعلت الناخب يذهب إلى صندوق الاقتراع ليصوّت بشكل صوري في أكثر من مرة وهو مدفوع بإكراهات محفوفة بفكرة تخامره، وتكاد تكون ثابتة، وهي أنّ نتائج الانتخابات معلومة مسبقا، وأنّ اسم الفائز بالرئاسة جاهز ولا ينقصه سوى إضفاء نوع من البهرج الانتخابي الشعبي لإضفاء الشرعية على كرسي حكمه.

قبل ثورة يناير، لم يكن أحد يتوقّع ذلك التغيير الهام في تاريخ تونس المعاصر وفي تاريخ المنطقة بأكملها، فأكثر ما كان يدور في نقاشات التونسيين وإن كانت خلسة وبعيدة عن أنظار النظام لا تخرج عن سياقات “إن الرئيس مدعوم من واشنطن، إن الرئيس مدعوم من باريس، بل إنه مدعوم من الغرب بأسره ولذلك لا يمكن تغيير النظام”.

حلّت الثورة، ورحل بن علي، لكن نفس الأسطوانة، أُخرجت مُجددا من الأدراج وأُعيد ترميمها بما يليق بتفكير من يحكمون في تلك الفترة، ومن ثمّة إشاعاتها بين الناس بعد شحنها بشعارات تقول ما يلي “لا يمكن أن يكون لك رئيس يحكم تونس دون أن يكون مدججا بنسب رضا من الغرب”، والأنكى أن كل هذا حصل في وقت تسابق فيه الجميع وبمن فيهم مروّجي الأسطوانة المشروخة للحديث عن الديمقراطية التونسية الفريدة.

هذا الطرح الأخير الذي تبنّته واقتنصته، القوى التي حكمت تونس طيلة تسع سنوات، صعد مجددا على سطح الأحداث خلال الدور الأول للانتخابات الرئاسية، خاصة عندما طُرحت مسألة المرشحين الحاملين لجنسيات مزدوجة تونسية – فرنسية، فذهبت جلّ التأويلات إلى اعتبار أنّ المرشح فلانا مدعوم من باريس وأنّ المرشح فلانا مدعوم من واشنطن وأنّ مرشحا آخر يعدّ الأوفر حظا لأنه مدعوم من الغرب برمّته.

لكن عندما أتت اللحظة الحاسمة في 15 سبتمبر، صوّت التونسيون لفائدة أنفسهم ولمرشحي التونسيين وحدهم لا شريك لهم، وكلّ ذلك بطبيعة الحال مع اختلاف التقييمات حول خياراتهم التي ربما قد يثبت أنها خُدعت بما رُفع من شعارات المرشحين الفائزين بالمرتبة الأولى والثانية، وهو ما ستؤكده الوقائع مستقبلا حال وصول أحدهما إلى قصر قرطاج.

للمزيد:

6