تونس تستحق أفضل من لعبة مراهنة لا تخدم مصالحها

عرض الاتحاد الأوروبي على تونس حزمة مساعدات بقيمة مليار دولار مقابل تعزيز مراقبة الحدود. لكن هذا المبلغ المتواضع لا يرمز إلى افتقار أوروبا إلى الطموح تجاه جيرانها في جنوب البحر المتوسط فقط، بل أيضا إلى سياسة تتمحور حول الذات وتفشل في معالجة المشاكل الحقيقية التي تواجهها تونس بينما تعاني من ضائقة مالية.
وركزت الزيارة الأخيرة التي أجرتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى تونس على وقف الهجرة. وكانت أحدث الأمثلة العديدة التي يحاول فيها الاتحاد الأوروبي التوفيق بين سياسته في حماية أسلوب الحياة الأوروبي والدفاع عن مصالحه والتمسك بالقيم التي تأسس عليها. لكن هذه المهمة تزداد صعوبة مع الخلفيات الجيوسياسية والتحالفات القوية الناشئة.
قد يُعتقد هنا أن إقناع تونس بفوائد “شراكتها” مع الاتحاد الأوروبي سهل. لكن القروض والمساعدات بقيمة مليار دولار التي قدمها الاتحاد الأوروبي للبلاد التي تمر بضائقة مالية تُظهر استهانة لا تتوافق مع نوايا التكتل المعلنة لتعزيز حسن الإدارة الاقتصادية واحترام الديمقراطية.
◙ الدين الخارجي التونسي تضاعف على مدى العقد الماضي، ليبلغ الآن 94 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي
وقد لا يولي الرئيس قيس سعيد اهتماما كبيرا لحرية التعبير والحقوق الفردية، لكن القادة الأوروبيين يغضون البصر عندما يبتعدون عن أوروبا المسيحية (أوكرانيا) ويتعاملون مع جيرانهم المسلمين الجنوبيين. ويمكن مقارنة ما يعرضه الاتحاد الأوروبي على تونس بالصفقة التي قطعها سيلفيو برلسكوني مع العقيد الليبي معمر القذافي في 2008 لاستهداف المهاجرين الأفارقة.
ويجب مقارنة المبلغ المقدم لتونس حاليا بمبلغ الـ20 مليار دولار لمدة عامين الذي عرضته مجموعة الدول السبع على البلاد في ربيع 2011، بعد أشهر قليلة من سقوط نظام بن علي. ويرمز المبلغ المقدّم اليوم إلى افتقار أوروبا إلى الطموح تجاه جيرانها في جنوب البحر المتوسط وغيرهم في القارة الأفريقية.
وشهد يوم الأحد الماضي سفر أورسولا فون دير لاين ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني (كانت زيارتها الثانية إلى تونس في غضون أسبوع)، ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته إلى تونس ليقدموا لقيس سعيد المبلغ الإجمالي البالغ مليار دولار مقابل وعد بتولي بلاده دور رجل الشرطة مثلما تفعل تركيا في شرق المتوسط.
وتطرح هذه الزيارة سؤالين. لماذا لم تشمل رئيس الوزراء السويدي (تتولى السويد رئاسة الاتحاد الأوروبي) في الوفد؟ أين كانت رئيسة وزراء فرنسا التي تربطها بتونس علاقات تاريخية واقتصادية عميقة؟
إن غياب رئيسة الوزراء إليزابيث بورن يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت لفرنسا سياسة شمال أفريقية أو ما إذا كانت تسمح للاتحاد الأوروبي وجورجيا ميلوني ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بتولي المهام نيابة عن صندوق النقد الدولي الذي أجرى مفاوضات مطولة بشأن قرض بقيمة 1.9 مليار دولار لتونس منذ 2021.
السؤال الثاني هو عما يختبئ في مبلغ المليار دولار. وعرض الاتحاد الأوروبي منح تونس مساعدة مالية طويلة الأمد بقيمة 900 مليون يورو، ومساعدة بقيمة 150 مليونا يتم صرفها “فورا” في الميزانية، وحزمة بقيمة 105 ملايين لإدارة الهجرة.
بعبارة أخرى، وقْفُ الأفارقة الصحراويين وعدد التونسيين المتزايد الذين يحاولون المرور عبر الطريق البحري القصير والخطير إلى شواطئ جنوب إيطاليا.
وتضاعف عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى الساحل الإيطالي (والكثير منهم في قوارب تغادر تونس) إلى حوالي 54 ألفا منذ بداية 2023. وهذا أمر يقلق جورجيا ميلوني.
يعتمد الجزء الآخر من الحزمة على قبول تونس لشروط تفويض من صندوق النقد الدولي، وهو أمر عارضه قيس سعيد، فمن شأن قطع دعم الطاقة بشكل كبير أو خصخصة الشركات الحكومية أن يضر بشعبيته. ولم يُظهر الرئيس التونسي أيّ اهتمام بمعالجة العيوب العميقة في اقتصاد الشركات غير إدانة الفساد.
◙ مع انتشار الشعبوية على ضفتي البحر المتوسط، تستحق تونس أفضل من لعبة مراهنة لا تخدم مصالحها
ويقبع رجال الأعمال “الفاسدون” الآن في السجن إلى جانب المدافعين عن حقوق الإنسان. وتبدو كلماته جوفاء أكثر للتونسيين الذين يواجهون نقصا متزايدا في المواد الغذائية الأساسية.
لكن ماذا عن إصلاحات صندوق النقد الدولي؟ كان أحد شعارات ثورة 2011 التي أطاحت ببن علي وانتشرت في جميع أنحاء الشرق الأوسط يقول “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق”.
وكان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حتى منتصف ديسمبر 2010 عند اندلاع الثورة يقولان إن البلاد كانت تشهد نموا مرتفعا وخفضا للفقر بعد أن اتبعت عن كثب سيناريو التعديل الهيكلي المعروف باسم “إجماع واشنطن”. وأقرضت المنظمتان تونس (برنامج الإصلاح الهيكلي 1986 – 1992)، ثم اعتمدتا برامج قروض بعد 2013 لتعزيز سياسات التحرير وإلغاء الضوابط والخصخصة التي رسّخت مصالح النخبة الفاسدة.
وقوّض المفعول العميق لهذه السياسات رفاهية الأسر التونسية مما أثار المقاومة بشكل غير مفاجئ حيث شهد الناس العاديون تدهورا في أوضاعهم الاقتصادية. كما شعر الكثيرون بالإحباط من الطريقة التي تقرر بها توزيع عبء التقشف. وشهدت المناطق النائية المهمشة، التي اندلعت منها شرارة الثورة في 2010، الألم أكثر حدة، بالإضافة إلى ضواحي تونس العاصمة الفقيرة.
وكانت إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي على أساس ليبرالي، بداية من سنة 1986، تهدف إلى دمج البلاد في النظام الاقتصادي للاتحاد الأوروبي. وقد جعل صندوق النقد الدولي ذلك، بوضوح، إطارا ثابتا في تقييمه لميزان مدفوعات تونس. وعزز هذا انفتاح البلاد التجاري على أوروبا.
لكن هذه السياسات التنموية لم تفعل الكثير لتحسين فرص العمل أو زيادة النمو الاقتصادي. وكان تصميم معظم السياسات يهدف لتلبية متطلبات السوق الدولية (الأوروبية خاصة).
وتضاعف الدين الخارجي التونسي على مدى العقد الماضي، ليبلغ الآن 94 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولا يحمل تأثيرا إيجابيا كبيرا على الاستثمار أو النمو الاقتصادي.
ولكن من سيتحمل تكلفة هذه الأجندة التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على العديد من البلدان الأفريقية والشرق أوسطية لعقود؟
◙ الزيارة الأخيرة التي أجرتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى تونس ركزت على وقف الهجرة
تتجذر المشاكل التي تؤثر على تونس بعمق في السياسة الداخلية، والدولة الموروثة الجديدة والنخب التي تعتمد لوائح الدولة لمنع المنافسة ومنع دخول رواد الأعمال الشباب إلى ما يشبه المافيا أحيانا.
لكن علاقة تونس مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي غير منتجة، وقد يعتبرها البعض مدمرة. وتتفاقم مشكلة الديون الآن بسبب الزيادات في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حيث أن ديون البلاد مقومة بالدولار واليورو. كما ساءت الأمور أكثر بسبب سياسة الهجرة الخارجية التي يتبناها الاتحاد الأوروبي.
وتطغى اليوم على وسائل الإعلام الغربية أصوات الغضب من الحرب في أوكرانيا. ويركز القادة السياسيون في الاتحاد الأوروبي على الجزء الشرقي من قارتهم كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، وهم غير قادرين على التفكير الإستراتيجي في التعامل مع شمال أفريقيا والقارة السمراء ككل، رغم العلاقات التاريخية والاقتصاد والتجارة التي تعود إلى قرون، ناهيك عن الملايين من البشر الذين لديهم، إذا جاز التعبير، قدم على كل ضفّة.
ونسي هؤلاء، إن فهموا أصلا، كلمات المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستراوس كان، الذي قال قبل ربع قرن إن أوروبا لن يكون لها مستقبل إذا لم يصبح البحر المتوسط “بحرا أوروبيا”. ومع انتشار الشعبوية على ضفتي البحر المتوسط، تستحق تونس أفضل من لعبة مراهنة لا تخدم مصالحها.