تونس تحيي تراثها المعماري القديم عبر مشاريع جديدة

يمثل التراث العمراني بما يزخر به من مبان تاريخية نقطة تنموية هامة تستغل المخزون الثقافي والإرث التاريخي اللذين تمثلهما هذه المنشآت الخاصة والعمومية على حد سواء في خلق حركية اقتصادية وتحقيق الاستدامة، علاوة على دورها في ترسيخ الهوية الوطنية. وفي هذا الإطار تنخرط تونس بعمرانها التاريخي الهام في مسار يحاول تثمين هذا التراث وحمايته وسط تحديات كثيرة تجابهه.
محرز ماجري
تونس - يطالع المتجول في عدد من المدن التونسية، ولاسيما تونس العاصمة، عددا لا بأس به من الأحياء القديمة والبنايات ذات الطابع المعماري المتفرد والمتميز، التي تؤرخ لفترات من تاريخ البلاد، ومنها الإسلامية وفترة الاستعمار الفرنسي لتونس.
ويسترعي انتباه المتجول في هذه الأحياء والمتأمل في تفاصيل بناياتها ذات القيمة التاريخية والحضارية، ما تشكوه من تقادم واهتراء لبنيتها ولمعالمها بسبب الإهمال ونقص الصيانة، حتى إن الكثير منها بات قفرا ومهددا بالسقوط.
حماية آثار تتلاشى
في مدينة تونس القديمة بدأت بعض المنازل تتلاشى وتفقد خصوصيتها المعمارية والتاريخية ما يدعو إلى تدخل عاجل
في تونس العاصمة، يكفي أن يرفع أي شخص رأسه ليكتشف “كنوزا” معمارية، لبنايات تعود إلى فترة ما قبل الاستعمار نقشت على شرفات شققها أشكال هندسية مرصعة في بعض الأحيان بفسيفساء جميلة. وفي عدد من أزقة مدينة تونس العتيقة بدأت بعض المنازل تتلاشى وتفقد خصوصيتها المعمارية والتاريخية لتتحول إلى خرب ومصب للفضلات تنبعث منها روائح كريهة، بدلا من ترميمها وإعادة توظيفها في المسلك السياحي لتونس المدينة.
وحرصا على إنقاذ هذا الرصيد العقاري الفريد من نوعه وإعادة إدماجه خاصة في الدورة الاقتصادية والسياحية، أطلقت وزارة التجهيز والإسكان مشروع إحياء المراكز العمرانية القديمة بتونس في خطوة لإعادة الروح لهذه الأحياء وإنقاذها من الاندثار وحماية بعض من “الذاكرة” المعمارية لتونس.
تقول إيناس زبيبة، رئيسة مشروع إحياء المراكز العمرانية القديمة بتونس بوزارة التجهيز والإسكان، في حوار معها إن المشروع، الذي يمتد على 36 شهرا، “يهدف إلى التدخل في هذه المراكز ذات القيمة التراثية والمعمارية وذلك بغاية تهذيبها وضمان إدماجها الاقتصادي والاجتماعي في إطار خطة شاملة ومتكاملة”. ويقصد بـ”المراكز العمرانية القديمة” المجموعات المعمارية العمرانية البربرية والمدن العتيقة و”القصور” والأحياء الأوروبية القديمة وكل نسيج آهل بالسكان وله صبغة تاريخية، تراثية أو تقليدية ويلعب دورا مركزيا في المدينة وفي الفضاء العمراني الذي ينتمي إليه.
ويرمي البرنامج الخاص بهذه المراكز العمرانية، وفق المتحدثة، أيضا، إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان وتنشيط الدورة الاقتصادية بالمراكز العمرانية القديمة إلى جانب تعزيز جاذبيتها من الناحية الثقافية والسياحية. تبين زبيبة أنه تم إمضاء اتفاقيات مع 10 بلديات بتاريخ الثاني عشر من يوليو 2022 وهي سوسة ونفطة والقيروان ونابل والمنستير ورادس ومدنين وقليبية وراس الجبل وعوسجة، تخص تمويل وتنفيذ عمليات الإحياء.
وتؤكد المسؤولة أنه من المنتظر أن تكون لهذا البرنامج آثار إيجابية، ليس فقط، على المحيط العمراني من ناحية تحسين البنية التحتية وتجديد مختلف الشبكات والعناية بالمباني العتيقة ذات القيمة التراثية، بل إنه سينعكس، أيضا، إيجابيا على جودة حياة متساكني هذه الأحياء إلى جانب توفير الإطار الملائم لتعاطي الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تنهض بهذه الأحياء بصفة خاصة وبالمدن التي تنتمي إليها بصفة عامة. وتتابع بالقول “تم توفير حوالي 50 مليون دينار بتمويل من الدولة التونسية وقرض من البنك الأوروبي للاستثمار وقرض من الوكالة الفرنسية للتنمية”.
مقاييس ومعايير
عن المعايير والمقاييس التي تم على أساسها اختيار المناطق المستهدفة في البرنامج، تلفت رئيسة المشروع إلى أن اختيارها جرى من خلال فتح باب الترشحات أمام جميع البلديات التونسية التي تتوفر فيها المؤهلات الأولية. وتعد مؤهلة البلديات التي تمتلك نسيجا عمرانيا قديما آهلا بالسكان، يلعب دورا مركزيا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعمراني والتجاري.
وتضيف أنه تم الإعلان عن طلب الرغبة في المشاركة على مرحلتين، اذ شملت المرحلة الأولى تقييم البلديات المؤهلة التي قدمت ملفات ترشحها للاختيار الأولي. وحسب المعايير المتفق بشأنها تم الانتقاء الأولي لـ23 بلدية من 53 بلدية، ودعوتها لتقديم ملفات ترشح مفصلة أما المرحلة الثانية فتعنى بالاختيار النهائي وقد قدمت البلديات، التي تم اختيارها أوليا، ملفا تفصيليا لعمليات إحياء المراكز العمرانية القديمة. وتضيف المتحدثة أن البلديات تم ترتيبها حسب الجدارة، وفي حدود التمويلات المتوفرة تم اختيار العشر بلديات الأولى للانتفاع بالبرنامج.
خمسة مكونات يضمها المشروع، وفق زبيبة، التي تقول “يتضمن خمسة مكونات رئيسية تهم الأولى، تهذيب البنية الأساسية الحضرية، أي الصرف الصحي والطرقات والتنوير العمومي. وتعنى الثانية بتحسين وتهذيب الفضاءات العمومية، إذ يشمل هذا المكون جميع عمليات التحسين التي يتم تنفيذها تحت إشراف البلدية صاحبة المشروع للفضاءات العمومية من أنهج وأزقة وطرقات حادة وساحات وساحات صغيرة وحدائق عمومية ومساحات خضراء وأسواق”.
وتتابع “أما المكون الثالث فسيركز على تثمين التراث الثقافي من خلال تجديد وإعادة تأهيل المباني التاريخية”، مشيرة إلى أن كل العمليات المزمع القيام بها ستجري قيادتها تحت إشراف البلدية صاحبة المشروع بصفة مطلقة، ويمكن تنفيذها مع الدعم والمساندة أو رعايتها من طرف صاحب مشروع مختلف. وسيهتم المكون الرابع، وفق المتحدثة، بالنهوض بالأنشطة الاقتصادية والتجارية والحرفية والمسالك السياحية، ملاحظة أن هذا المكون سيضم العمليات المتعلقة بالأنشطة الجارية على وداخل الفضاءات والأماكن التي تم تهذيبها أو بنائها في إطار المكونات الأولى والثانية والثالثة.
وتفيد زبيبة بأن هذا المكون الرابع لا يتعلق بالأعمال والمباني والفضاءات والأماكن المادية بل بالأنشطة التي تقام فيها. بينما سيتناول المكون الخامس، تحسين السكن عبر إنجاز عمليات تهم تجديد الجانب الصحي والتقني للمساكن من طرف مالكيها وتجديد الجانب الصحي والتقني للمساكن من طرف منظمة عمومية مع تهذيب المساكن من طرف مالكيها وكذلك تهذيب المساكن من طرف منظمة عمومية بما في ذلك تحويلها إلى مساكن اجتماعية، علاوة على بناء مساكن جديدة (كتلة صغيرة) من طرف المالك أو باعث عقاري خاص أو بناء مساكن اجتماعية.
وتوضح رئيسة المشروع في ما يهم محافظة تونس، أن بلديتي تونس والمرسى قدمتا ترشحهما ولكن لم يقع الاختيار عليهما منذ مرحلة الانتقاء الأولي لعدم الاستجابة للمعايير المحددة في ملف التعبير عن الرغبة في المشاركة للمرحلة الأولى.