تونس أمام حتمية استبدال آليات التمويل لتقليص الديون

تفرض أزمة الديون المزمنة في تونس على المسؤولين وصناع القرار الإسراع في ضبط إستراتيجية أكثر فاعلية تستكشف من خلالها طرق تمويل أخرى تكون مجدية، تجاوبا مع الظروف المالية الراهنة، والتي تعيق الاقتصاد عن النمو على النحو المطلوب.
تونس - تعطي تقييمات أصدرها المرصد التونسي للاقتصاد الثلاثاء، بشأن مشكلة الدين العام للدولة تأكيدا آخر على أن الأسلوب المتبع حاليا قد لا يفي بالغرض مع النهم الكبير الذي تحتاجه الحكومة لتمويل الميزانية العامة.
واعتبر خبراء المرصد في تقرير أوردته وكالة الأنباء التونسية الرسمية أن على المسؤولين البحث عن بدائل لخطوط الائتمان من صندوق النقد الدولي، بما أن السلطات لا تحبذ التعامل معه على الأقل في الوقت الحالي، مع العمل على تنويع مصادر التمويل.
وأشاروا إلى أهمية استكشاف المنظومات المالية الإقليمية واتفاقيات تبادل العملات الثنائية وضرورة تخفيف الضغط على الانفاق الاجتماعي والاستثماري عبر التوجه إلى حلول تمويل أخرى للميزانية تقطع مع مراكمة القروض وفوائدها الباهظة.
وبين عامي 2016 و2018 يبدو أن العامل الرئيسي الذي ساهم في الزيادة الكبيرة في حجم القروض من أقساط مستحقة أصلا وفوائدا، هو سياسة التخفيض المتعمد للعملة التونسية الموجهة من طرف المؤسسات المالية الدولية.
وبحسب المرصد، وهو عبارة عن مركز بحثي، اقترن ذلك بفائض في التمويل الخارجي “غير المنتج”، والموجه بشكل رئيسي نحو دعم الميزانية دون تحقيق النمو الاقتصادي.
ويرى الخبراء بالتالي، ضرورة مراجعة القانون الصادر في عام 2016 المتعلق باستقلالية البنك المركزي بهدف عدم حصر دوره في مقاومة التضخّم ولاستعادة السيادة النقدية.
ويعتقد المرصد أن على المركزي القيام بدور في المساهمة في بناء النموذج الاقتصادي الموجّه نحو التنمية من خلال معارضة مبدأ الاستقلالية المطلقة للبنك مقارنة بالسلطة التنفيذية، نظرا لعدم فاعلية هذا الإجراء في تحقيق هدف استقرار الأسعار، وفق التقرير.
ويطالب الخبراء أيضا بمراجعة وإعادة التفاوض بشأن جدول سداد الديون، التي تمتص حاليا أكثر من 30 في المئة من ميزانية الدولة، لإضافة الى ضرورة الابتعاد عن سياسة سداد خدمة الدين بأيّ ثمن وعلى حساب النفقات الاجتماعية.
ومن الضروري، أيضا، وفق التقرير، ضبط خدمة الدين وتقليصها قصد تخفيف الضغط على المالية العمومية، وإيلاء اهتمام خاص لنسب الفائدة (المتغيرة أو الثابتة والقيمة) والآجال المقترحة في اتفاقيات القروض.
وتضاعف حجم الدين العام للبلاد بين سنتي 2010 و2023، خمس مرات ومن المتوقع ان يصل، وفق قانون مالية سنة 2024 إلى أكثر من 139.9 مليار دينار (44.3 مليار دولار). وتشير نتائج تنفيذ ميزانية 2022 أن الدين العام بلغ 36.3 مليار دولار.
ويتجلى من خلال الاحصائيات المتوفرة على موقع وزارة المالية، استمرار ارتفاع حجم قروض الدين العام في سنة 2023 بقيمة بلغت نحو 40 مليار دولار، وهو مبلغ كبير قياسا بالناتج المحلي الإجمالي للبلاد والذي يبلغ قرابة 54 مليار دولار.
واتخذ هذا المعدل وتيرة تصاعدية منذ سنة 2010، وقد ارتفع ولم يستقر إلا في السنوات الأخيرة على الرغم من الركود الاقتصادي.
وتضاعفت نسبة القروض إلى الناتج المحلي الإجمالي التونسي على مدار 13 عاما، إذ زادت من 38.8 في المئة في عام 2010 إلى 79.8 في المئة في 2023.
واستنادا إلى ميزانية 2025 فإن حجم القروض الداخلية سيتضاعف ليصل إلى 7.08 مليار دولار من 3.57 مليار دولار في الميزانية السابقة، بينما سيتراجع حجم القروض الخارجية إلى 1.98 مليار دولار في 2025 مقارنة مع 5.32 مليار دولار في 2024.
والعام الماضي، سعت تونس بلجوئها النادر إلى الاقتراض المباشر من المركزي إلى إثبات أن لديها مخزونا من الأدوات الاستثنائية لحل مشكلة عجز الموازنة حتى لو كان ذلك يحمل آثارا سلبية قد تمتد إلى الأجيال القادمة.
نسبة القروض تضاعفت على مدار 13 عاما لترتفع من 38.8 في المئة في عام 2010 إلى 79.8 في المئة بنهاية 2023
ويشمل الاقتراض الحكومي بالمعنى الدقيق للكلمة حاليا، الحصول على ديون من القطاع الخاص، أي من الأفراد والشركات عبر طرح سندات محلية، وأيضا والمؤسسات المالية المختلفة، بما في ذلك البنوك.
ويقول محللون إنه عندما تحصل الحكومة على الأموال من البنك المركزي، فإنها في الواقع توفر السيولة النقدية بدلا من اقتراضها، نظرا لأن القوة الشرائية تبنى أساسا من قبل صناع القرار النقدي دون التزامات تجاه المستهلكين.
ويعتقد خبراء أن السلطات قد تكون مصيبة في خيارها من خلال تحقيق عدة مكاسب، في مقدمتها، التأكيد على أنها لن ترضخ لشروط صندوق النقد للحصول على خط ائتمان، وحتى لو عادت المفاوضات مجددا فإنها ستفرض شروطها هي.
والمبلغ الذي حصلت عليه الدولة من المركزي لتمويل موازنة 2024 كان في حدود 2.25 مليار دولار مع فترة سداد تمتد على عشرة سنوات بفائدة صفرية، وهو أكبر من قرض المؤسسة المانحة، الذي كانت تونس تسعى إليه والبالغ 1.9 مليار دولار.
وبالنسبة للمسؤولين بدا ذلك كافيا لإثبات مبدأ السيادة، حتى لو كان على حساب المكاسب المنجرة عن خط الائتمان من الصندوق، بما في ذلك الاتفاقيات الثنائية، التي يفترض أنها أحد نتائج الاتفاق المنتظر، وأحد محركات الدفع للخروج من الضائقة المالية والاقتصادية.
ويتمثل الهدف الثاني للدولة في تقليص الاقتراض من البنوك المحلية بفائدة عالية، وبالتالي تخفيف الضغط عن الموازنة، مع إرجاء أيّ طرح محتمل لسندات الخزانة ريثما يتضح مسار الوضع.
ولكن البعض ينظرون إلى هذا المسار باعتباره رسالة من السلطات إلى قطاع الأعمال بأن الشركات مطالبة بزيادة الإنتاج حتى تتمكن من زيادة التصدير وتقليل الاستيراد مع توفير فرص العمل، وبالتالي تتم إعادة بناء رصيد العملة الصعبة وينمو الاقتصاد.
وتظل التحديات المرتبطة باستقرار الاقتصاد الكلي وإدارة التضخم كبيرة، إذ أن التدابير الرامية إلى دعم التوظيف وتحفيز الاستثمار الخاص ستكون حاسمة لتحقيق انتعاش اقتصادي أكثر قوة ونمو مستدام.
وتتوقع الحكومة في ميزانية 2025 معدل نمو اقتصادي يبلغ 2.9 في المئة، ولكنه يظل أقل بكثير من المتوسط المسجل قبل 2010 عند نحو 5.4 في المئة، وبالتالي فهو غير كاف لضمان الرفاه الاجتماعي والنمو والتنمية.