تونس، غلطة الشاطر في ليبيا

عجبا. ما هو الدافع الوطني القوي القاهر الذي جعل تونس الصغيرة الجميلة الهادئة العاقلة المتأنية تضع بيضها الليبي كلّه في سلة الحكومة الإيطالية الباحثة عن مجد ضائعٍ في ليبيا وفي منطقة البحر المتوسط والعالم؟
ليس مفهوما ولا متوقعا أن تعلن اتفاقها مع رئيس وزراء إيطاليا، جوزيبي كونتي، على الانحياز لفائز السراج المحاصر بالميليشيات داخل طرابلس، وبخليفة حفتر من خارجها، وأن تفصح عن عدائها للجيش الليبي القادم لتحرير السراج والعاصمة، معا، من تخلف الإخوان المسلمين وفسادهم وإرهابهم، ومن أموال القطريين وسلاح العثمانيين اللاعبين في الوقت الضائع، كما يبدو، وكما يتأكد يوما بعد يوم.
لو فشل المشير خليفة حفتر في تحقيق سيطرته على العاصمة وما جاورها، واستمر القتل والحرق والهدم وسفك الدماء إلى ما لا نهاية، بفعل النجدات الدولية والإقليمية المتدفقة على الطرفين المتقاتلين حول طرابلس، وتحولت ليبيا إلى سوريا ثانية، أو إلى يمن آخر؟، ماذا سيستفيد الشعب التونسي؟
ماذا سيجني المواطن التونسي حين تستمر الحرب، ويعجز المواطن الليبي عن السفر إلى تونس للسياحة والاستجمام والاستثمار وشراء المنازل والفنادق والقصور؟
وإذا كانت حكومة إيطاليا تتصرف في ليبيا بعصبيّتها القومية المتوارثة المعروفة، ومن أجل حماية علاقتها المهزوزة مع الميليشيات، والمهدّدة بالجيش الليبي الزاحف نحو العاصمة طرابلس، ونكاية بمصالح الفرنسيين المتقدمة في مناطق المحررة من هيمنة الميليشيات، فما بال التوانسة المعروفين ببعد النظر والعقلانية والعد للعشرة عند الملمات والشدائد يزجّون بأنفسهم ومصالحهم الوطنية الكثيرة في حرب لا يَعرف نهايتها إلا الراسخون في علم التدخلات الدولية وفي لعبة الأمم ومعارك سماسرة المصالح المنافقين؟
ترى لماذا لم يقفوا على التل، محايدين، لا مع الميليشيات التي قد تدور عليها الدائرة فتُغلبت ويتمزق شملها ويتوقف نهبها لثروات الشعب الليبي وتهريبها إلى تركيا وتونس وإيطاليا وغيرها، ولا مع الجيش الليبي الذي قد يفشل في اقتحام العاصمة، طرابلس، فيبقى الحال على حاله، لا غالب ولا مغلوب، ويظلون على مسافة واحدة من هؤلاء وأولئك، وغير مخاصمين لأحد من الطرفين؟
ثم، أليس في تحرير الوطن الليبي من عصابات الإسلام السياسي المتطرف مصلحة مؤكدة لتونس، خصوصا إذا وفى المشير حفتر بوعوده وحقق المصالحة الوطنية الشاملة، وسمح بإجراء انتخابات، وأطلق حركة إعادة إعمار الوطنٍ المهدّم المخرّب المحتاج إلى كل شيء، من لقمة الخبز، إلى العمارة الشاهقة، والجسر الباهر، والشارع الأنيق، والمطار الجميل، والجامعة المزدهرة، والمستشفى المتقدم الحديث؟
والسؤال الصعب الآخر هو لمصلحة مَن تنحاز الحكومة التونسية إلى الجبهة المعادية للشعب الليبي والعقلانية والرحمة والاعتدال والإنسانية، و(المجاهدة)، بمالها وسلاحها وأموالها، من أجل بقاء الفوضى والاقتتال وخراب البيوت؟
فما الذي يجمع تونس المتحرّرة من الخرافة والتطرف والعنف الديني مع تركيا الإخوانية، وقطر المحتضنة لقادة الإرهاب الإسلامي، وإيران الرافضة بقوة لوضع الإخوان المسلمين على قائمة الإرهاب؟
ولمصلحة من تراهن الحكومة التونسية على خيول الإخوان المسلمين الخسرانة المنهكة المحاصرة المطلوبة للعدالة الدولية، والملاحقة، أمنيا وقانونيا واقتصاديا، وحتى النهاية؟
وماذا تكسب تونس، حكومة وشعبا، لو استمرت الفوضى في جارتها ووجد الدواعش والقاعديون، بمعاونة الإخوان المسلمين، مأوى ومرتعا لتفريخ الإرهابيين وتصديرهم إلى دول الجوار؟
إن الظاهر المخفي هو أن حركة النهضة في تونس، باعتبارها الشقيقة الكبرى للإخوان المسلمين، هي القابلة التي ولدت الاتفاق الأخير مع رئيس الوزراء الإيطالي، بذريعة “فتح المجال أمام ‘حل سريع” لإنهاء الحرب الليبية، وتجنّب التصعيد، وضمان وحدة ليبيا وأمن شعبها واستقراره”.
والسؤال الواجب طرحه هنا هو، أين كانت النهضة والحكومة الإيطالية في السنوات العجاف الماضية من اضطراب أمن الشعب الليبي، وضياع استقراره، وخراب دياره، ونهب ثرواته، على أيدي المسلحين المتشددين الرافضين المعرقلين لأي اتفاق سلام حقيقي بين المتقاتلين، رغم التقائهم مرات عديدة، كان آخرَها في باليرمو، وهو لقاء لم يُنتج سوى المزيد من الانقسام والتعنّت والعناد؟
الحكومة الإيطالية لو كانت حريصة حقا على السلم الليبي وعلى “حل سريع” لإنهاء الحرب الليبية لنفضت يدها من أيدي المعرقلين الوحيدين للمصالحة، لا حبا بسواد عيون أحدٍ من الليبيين، ولكن سعيا لتحقيق عودة لها جديدة ومتوازنة ومثمرة مع الشعب الليبي الذي قد ينسى تاريخها الدامي البغيض في بلاده، وقد يضع يده بيدها من جديد.
وأغلب الظن أن الشعب الليبي المتطلع إلى الحرية والانعتاق والخلاص من حالة الاحتراب لا يعتب كثيرا على إيطاليا التي تعرف انتهازيتها ونوازعها الاستعمارية الاحتلالية التاريخية التي لا تنسى. ولكن المؤكد أن في كل بيت ليبي، في شرق ليبيا وغربها، جنوبها وشمالها، مواطنا واحدا أو أكثر يعتب على أشقائه التوانسة الذين يعلمون أو لا يعلمون بأنهم في تأييدهم لمحبة الإيطاليين المغشوشة والمسمومة للسلم الليبي إنما يعملون على إنقاذ الميليشيات الخارجة على السلم والأمن والقانون، وحماية عصاباتها من السقوط، وهو الذي لن يتحقق.