توماس باين ينكر قصة آدم وحواء

توماس باين ناقد عقلاني كان يرى أن رجال الدين هم السبب الأكبر في الأذى الأخلاقي الذي يصيب المجتمع.
الأحد 2022/05/08
أحد الآباء المؤسسين للثورة الأميركية

توماس باين هو أحد الآباء المؤسسين للثورة الأميركية وواحد من أهم الداعمين للثورة الفرنسية، وإلى جانب كونه ثوريا سياسيا كانت وجهات نظره وموقفه حول الأديان أكثر ثورية وقد وضعته في أزمات متكررة آخرها جنازته التي لم يحضرها سوى عدد قليل جدًا بعدما نبذه كل من يعرفه.

ولد توماس باين في بريطانيا عام 1737 ومر بالعديد من الوظائف من ضابط إلى صاحب عمل خاص انتهى بفشله الذريع ثم محررا صحافيا بعد انتقاله إلى أميركا بدعوة شخصية من بنجامين فرانكلين عام 1774، وهناك نشر العديد من المقالات التي توزعت حول إدانة العبودية وحض الجنود على الاستقلال عن بريطانيا، وبذلك أحبه الأميركيون في مقابل اعتباره خائنًا من قبل البريطانيين لمجرد أنه طالب باستقلال أميركا.

بعد حوالي 12 عاما عاد إلى بريطانيا وكان قد بدأت بوادر التفكير في الثورة الفرنسية فوقع في غرامها وقرر دعم أفكار الثورة بكل ما يملك، وقبل الثورة بأربعة أعوام كتب “حقوق الإنسان” وقد دعا فيه إلى ثورة فرنسية دموية قوية، ولهذا السبب اعتبرت بريطانيا أنه متطرف أو بشكل أدق إرهابي فتم سجنه، وبعد ذلك بعام غادر السجن بأعجوبة بعد نجاته من الحكم عليه بالإعدام.

وكرّس توماس باين حياته للدفاع عن وجهات نظره سواء في السياسة أو الدين، ولكنه اشتهر بشكل أوسع بسبب نقده للدين وتحديدًا بسبب كتابه المكون من ثلاثة أجزاء “عصر العقل” والذي انتقد فيه الدين المُهيكل وتحدى رجال الدين والمؤسسات الدينية، وكان السبب الأكبر في جعله منبوذًا بعدما كان رمزًا سياسيًا معروفًا.

توماس باين يرى أن الوحي مجرد خرافة جماعية وقاصر على الشخص الذي يستقبل هذا الوحي وليس على الآخرين تصديقه لأنه ليس هناك أيّ دليل مادي يضمن صدق هذا الوحي

ولم يكن توماس باين ملحدًا كما يشاع عنه إنما كان ربوبيًا، وكما يقول “أؤمن برب واحد فقط لا أكثر”، وكانت مشكلته الأولى والكبرى تتلخص في عدائه للمؤسسات الدينية ورجال الدين ولم يكن -في وقت مبكر- يؤمن بأيّ عقيدة سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية، فعقله كان كنيسته الخاصة وكان دائم التأكيد على أن كل المؤسسات الدينية ما هي إلا اختراعات بشرية أنشئت من أجل تخويف الإنسان واستعباده وكذلك السيطرة عليه وعلى أمواله.

وأكد توماس باين أن رجال الدين هم السبب الأكبر في الأذى الأخلاقي الذي يصيب المجتمع وذلك بسبب نفاقهم وحبهم للسلطة والمال، وأشار بشكل عام إلى الارتباط الخادع بين السلطة والدين الذي بدوره يمنع أي نقاش ويقطع ألسنة المستنيرين، وفي هذا السياق دعا إلى العلمانية التي لن تأتي إلا بالثورة على رجال الدين ليعود الناس بعدها إلى فطرتهم الإيمانية الصحيحة.

وكانت أزمة باين آنذاك هي استخدامه لعقله لنقد كل التراث الديني. فإن العقل بالنسبة إليه هو أكثر الأسلحة فاعلية ضد كل نوع من الأخطاء، وكان يقصد بكلمة أخطاء كل قصة دينية وكل مصطلح ضد المنطق، والميزة في توماس باين أنه كان دائم الحفاظ على حق كل المؤمنين في عدم إعمال عقولهم لأنه يرى أنهم توارثوا العقائد دون القدرة على التفكير فيها، لكنه في المقابل كان يرى أن الشخص المؤمن بصفة شكلية دون اقتناع هو الكافر الحقيقي، فالكفر عنده لا يتعلق بالإيمان من عدمه إنما هو اعتناق الشخص لعقيدة لا يستطيع الإيمان الكامل بها.

ويرى باين أن الوحي مجرد خرافة جماعية ويقتصر على الشخص الذي يستقبل هذا الوحي وليس على الآخرين تصديقه لأنه ليس هناك أيّ دليل مادي يضمن صدق هذا الوحي، كذلك قارن بين الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام في فكرة وجود شخص واحد محوري يتواصل الرب من خلاله مع باقي الشعوب، مبررًا انتقاده لهذه الجزئية بأن معنى تخصيص الله لشخص واحد ليتحدث إليه أن الطريق لم يكن مفتوحًا إلى الله بنفس القدر لكل إنسان على حد سواء وهو تمييز لا يقبل.

وبخصوص الوصايا التي يعرضها أنبياء ورسل الأديان من منطلق أنها وحي من الله يقول عنها باين إنها ليست دليلا على الألوهية فهي لا تتخطى كونها مجرد أخلاق حميدة يمكن لأيّ بشري وضعها، وكذلك في الحديث عن السياق الأخلاقي انتقد باين فكرة وراثة الخطيئة ورأى أن ذلك أمر غير أخلاقي في الأديان.

والخلاصة في نقطة الوحي عند باين أنه يرى أنه لا يوجد وحي بالمعنى المتداول والمعروف بل تتلخص كلمة الرب في الخلق الذي نراه، وهي علامة واضحة لا يمكن تزويرها، فالله يتكلم عالميًا من خلال الإنسان وليس من خلال معتقدات معينة.

Thumbnail

كما أن النزعة الثورية في أفكار توماس باين حول الدين جعلته في صدام مباشر مع الناس الذين لم يتقبلوا نقده أبدًا وفسر هو ذلك بسذاجتهم تجاه معتقداتهم محللًا ومفسرًا في كتابه “عصر العقل” أكثر من قصة دينية اعتبرها منافية للعقل والمنطق وربط بينها وبين الأساطير القديمة مستنتجًا أنهما مجرد وجهين لعملة واحدة.

وانتقد قصة آدم وحواء وقصة طردهما من الفردوس، ثم انتقد القوة الجبارة التي مُنحت للشيطان بعد هذا الوقت إلى درجة التأليه ليكون فزاعة البشر في مقابل القوة الإلهية.

وقد لخص باين ثلاث وسائل استخدمت لفرضها على البشرية وفيها اتفق مع آراء سبينوزا وهي؛ الغموض، المعجزة، النبوءة. ويرى أن أي دين يشوبه غموض عقلي لا يصلح لأن يكون دينا حقيقيا، فالمعجزة والغموض مكملان لبعضهما البعض، وأي شيء يُستعصى فهمه على البشر يتم إرجاعه إلى المعجزة وهو أمر مغلوط؛ فالمعجزة يشير بها الناس إلى شيء يجهلون أسبابه الحقيقية، ويضرب مثال أن الناس يقولون عن الإنسان الذي يطير في الجو إنه يصنع معجزة، والحقيقة أنهم يجهلون أن هناك غازات معينة وأدوات يستخدمها هذا الرجل ليطير.

والله عند توماس باين هو إله الحقيقة الأخلاقية، والخدمة الوحيدة للرب هي المساهمة في إسعاد الخلق الحي الذي صنعه الله، كما يؤمن بالمساواة بين البشر وأن الواجبات الدينية لا بد أن تتمثل في تحقيق العدالة والمحبة والرحمة والسعي للسعادة وتجنب الصراعات، ويقول “إن كل معتقد يكفّر الآخر وأنا بدوري أكفر بهم جميعًا”.

توفي توماس باين عن عمر ناهز 72 عاما ولم يحضر جنازته إلا القليل من الناس بعدما قرروا معاقبته -حتى بعد موته- على أفكاره الثورية تجاه معتقداتهم.

ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

10