"توك توك".. فيلم قصير يغوص عميقا في حياة المهمشين

لا تزال أفلام المهمشين تجتذب منتجي الأفلام القصيرة في مصر الذين يرون في رحابها قدرات كامنة تؤهلهم لتقديم صورة مغايرة عن السائد، واقتحام مناطق لا تطرقها السينما التقليدية على مستوى القصة والتصوير الواقعي لأناس من البشر يعيشون على هامش الحياة. وفيلم “توك توك” واحد من هذه الأفلام التي ترصد بعمق مشكلات القاع وآماله وآلامه.
القاهرة – ينتمي الفيلم المصري القصير “توك توك” (26 دقيقة) إلى السينما غير التجارية، أو ما يمكن الاصطلاح عليها بالسينما المستقلة التي تُعنى بقضايا المهمشين ومشكلاتهم بغوصه في منطقة الحطّابة بحي القلعة في منطقة القاهرة القديمة، والتي كانت مهدّدة بالإزالة قبل أن تكتفي الحكومة بتطويرها والإبقاء على سكانها الفقراء دون نقلهم إلى أحياء جديدة.
ويتّخذ الفيلم من المحلية الشديدة نمطا للوصول إلى العالمية، مركّزا جهوده على تصوير عالم الفقراء بتفاصيله الاقتصادية والاجتماعية.
ويعتمد “توك توك”، والذي أخرجه محمد خضر، على عشرة فنانين من خريجي معهدي السينما والمسرح، مع اثنين فقط سبقت لهما المشاركة في أدوار فنية، هما محمد خميس وأشرف مهدي، في رهان على الفكرة والأداء وليس الأسماء لتقديم مضمون جيد.
ويركّز العمل على القضايا التي تهم مجتمع البسطاء بداية من المرأة المعيلة والبطالة والتي تدفع بالمهمشين إلى ظواهر سلبية خطيرة كالهجرة غير الشرعية والتناحر على الفتات، ليسود منطق القوي الذي يهزم الضعيف، ولا يخلو أيضا من صراع الطبقات ورصد مشاعر القلق والخوف التي تُصيب الفقراء في تحدي الطبقة الأرستقراطية، بما تمثله من مال وسلطة وجاه.
ويحكي الفيلم قصة “ولاء” (الفنانة إلهام وجدي) سائقة مركبة توك توك التي يهاجر زوجها بشكل غير شرعي هاربا من الفقر، ليتركها أمام الموت جوعا أو العمل في مهنة يسيطر عليها الرجال وتفتح مجالا للاحتكاك بهم والتعرّض للتنمر باستمرار.
تختار ولاء العمل لإعالة أفراد أسرتها بداية من طفليها وشقيقها وأمها المريضة لتواجه أمراض المجتمع كاملة، بداية من التنمر والتحرش من شباب ضائع يتعاطى المخدرات، ويجدون لذّتهم في التعرّض للنساء.
اختيار ذكي
يمثل اختيار منطقة الحطّابة تحديدا لتصوير العمل قدرا كبيرا من التوفيق، فالمنطقة ظلت لعقود تعاني من الإهمال وتمثل تجسيدا حيا لتأثير تغيرات الزمن على الصناعات التقليدية، بعدما لاقت صناعات الحرف اليدوية التي تضمّها تعقيدات كبيرة، خاصة الصدف والأثاث الخليجي ما حجب عن سكانها جزءًا من مصدر دخلهم الرئيسي.
ونجحت إلهام وجدي التي فازت بلقب ملكة جمال مصر عام 2009، في أداء دور السائقة وتعلّمت قيادة المركبة ذات العجلات الثلاثية، حتى فازت بجائزة أفضل ممثلة بمهرجان فيينا لجوائز الأفلام الدولية بعد ترشيحها بالقائمة النهائية مع بيثان واكر بطلة فيلم “ماكبث” من المملكة المتحدة، وداني ليانغ بطلة فيلم “بالرغم من تقاعدي” من الصين.
وقالت وجدي لـ“العرب” إنها انتظرت 11 عاما منذ فوزها بلقب ملكة جمال مصر للدخول في مجال التمثيل، لأنها تهتم بالكيف وليس الكم، وتسعى إلى تقديم محتوى يعبّر عن الجمهور ويلقى قبوله.
وارتدت الفنانة عباءة ابنة الحي الشعبي الفقير وقدّمت مفردات الشخصية بإتقان شديد على مستوى لغة الجسد خاصة نظرات الأعين التي توحي بقسوة الأيام ومراراتها، ما
فتح شهية المخرجين للتعاقد معها وتقرأ عدة سيناريوهات لتختار من بينها ليكون عملها الفني القادم بعد “توك توك”.
وعرف مخرج العمل جيدا أن لعبتهم في القدرات التمثيلية ولذا جرّب عددا من الممثلين في شخصية “محروس” زوج ولاء، واضطر للاستعانة بزميل دفعته في معهد الفنون المسرحية أشرف مهدي، فالشخصية تحمل تفاصيل متعدّدة تتعلّق بزوج يهرب من مسؤوليته بالتعرّف على فتيات أوروبيات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويهاجر من أجل حلم الثراء السريع عبر الزواج من إحداهنّ.
وأكّد الفنان محمد خميس، الذي لعب دور كبير منطقة الحطّابة ووسيط الهجرة غير الشرعية لـ“العرب”، أن العمل يتضمّن قيمة فنية ورسالة بضرورة النظر للمهمشين في الأرض ونبذ فكرة الهجرة غير الشرعية، وهي أفكار لا تهدف إلى الربح مثل بعض الأفلام السينمائية التجارية التي لا تحمل فكرا ولا مضمونا.
ويمثل العمل سلسلة من الحلقات كل منها تؤدّي إلى الأخرى ومرتبطة بها، فالمهُرب يعاني نقصا لعجزه عن العثور على وظيفة دون واسطة أو محسوبية فيلجأ إلى العنف، وسرقة أحلام الراغبين في الهجرة في محاولة نفسية لاسترداد ما تبقى من كرامته والشعور بالقيمة الذاتية.
قصة حقيقية

يعرج الفيلم أيضا إلى الباعة الجائلين الذين يجولون في الشوارع لتصريف منتج بعدما أغلقت أمامهم كل منافذ العمل، ويواجهون مطاردات شرطة المرافق ليلا ونهارا بدعوى عدم الحصول على ترخيص، فيضطرون إلى الهجرة غير الشرعية حتى لو كان مصيرهم الموت في النهاية.
لم يعتمد العمل على الإعداد الموسيقي من أجل توفير الميزانية كما تفعل الكثير من الأفلام القصيرة، ولكن استحدث إيقاعا ملائما للحي الشعبي مع دمجه بالأغاني مثل أغنية “نبع حنان” التي عبّرت عن الشخصية الرئيسية لبطلة الفيلم كامرأة حنون تضحي من أجل الإبقاء على أسرتها.
ومن يشاهد العمل يشعر بقدر من التكامل مع فيلم “ورد مسموم” الذي رصد أيضا حياة المهمشين داخل مدابغ منطقة مجرى العيون بالقاهرة القديمة قبل نقل القاطنين فيها إلى ورش جديدة بالصحراء، وذلك عبر بطلة تضطر للعمل في تنظيف المراحيض للمساهمة في إعالة أسرتها وتجاهد من أجل الحيلولة دون هروب شقيقها الوحيد للخارج في رحلة هجرة غير نظامية.
وأكّد شريف عبدالهادي، مؤلف “توك توك” لـ“العرب”، أن فكرته مستوحاة من قصة حقيقية لسائقة توك توك ظهرت في برنامج “توك شو”، وأراد في البداية تحويل القصة إلى فيلم روائي طويل، لكن تكاليف الإنتاج غير المتوفرة دفعته لتحويل الفكرة إلى فيلم قصير، كاختبار لإمكانية تحويلها إلى فيلم طويل أو مسلسل، وتتبنى جهة إنتاجية الفكرة، لأن الفيلم حقّق نجاحا كبيرا عند عرضه في المهرجانات العالمية.
الأفلام المصرية القصيرة التي تحمل رسائل توعوية واجتماعية تعوّض عجز الأفلام التجارية عن الوصول لمنصات التكريم، لكنها تحتاج إلى دعم حكومي لاستمرارها
واعتمد المخرج محمد خضر، الذي درس السينما بأكاديمية نيويورك للأفلام، على ضوء الشمس في الشارع أو في المنزل الذي دارت فيه الأحداث وتم تصويره لمدة يومين ونصف اليوم، بينما جاءت الأزياء متطابقة مع ما يرتديه أهل هذه المناطق الشعبية من عباءة وجلباب نسائي.
انتهى “توك توك” الذي يمتد على 26 دقيقة بموت كل الشباب والرجال الذين لجأوا إلى الهجرة غير الشرعية، وهو ما يدقّ ناقوس الخطر حيال تبني أسهل الحلول بالهروب من المشكلات بدلا من مواجهتها، وضرورة حل مشكلة البطالة التي تزايدت منذ تخلي الحكومة والقطاع العام عن دورهما في توظيف وتشغيل الشباب.
ويسير العمل على ركب الكثير من الأفلام القصيرة التي لا تقدّم نهاية وردية سعيدة يعود فيها الغائب لأحضان زوجته ليحتضنا أطفالهما ويشقان طريقهما في الحياة معا، وتقدّم النهاية المأساوية التي تهدف إلى تطهير النفس عن طريق الخوف والشفقة والحزن.
وتعوّض الأفلام المصرية القصيرة التي تحمل رسائل توعوية واجتماعية عجز الأفلام التجارية عن الوصول لمنصات التكريم، لكنها تحتاج إلى دعم حكومي لاستمرارها في أداء دورها التثقيفي والتنويري وتطوير مستوها لتحصد المزيد من الجوائز العالمية.