توفيق شرف الدين حقوقي يقوّض المشروع التمكيني للإسلاميين

جزء مهم من الشارع التونسي يعتبر أن شرف الدين مؤهل لقيادة معركة الإصلاح داخل وزارة الداخلية بعد سنوات من محاولات استهدافها من قبل الإخوان.
يتابع التونسيون حركات وسكنات وزير الداخلية توفيق شرف الدين باعتبارها تمثّل محرارا للوضع العام في البلاد، فالرجل القادم من قطاع المحاماة والذي يعد صديقا شخصيا للرئيس قيس سعيد، تحول إلى رقم صعب في المشهد السياسي، وإلى أحد عناوين المرحلة الحالية التي دشنها سعيّد بجملة تدابيره الاستثنائية المتخذة في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، والتي يصفها أنصاره بالحراك التصحيحي، ويرى فيها معارضوه انقلابا على الشرعية والدستور.
قد تدفع أغلب الاستنتاجات إلى إدراك موقع شرف الدين في قلب الأحداث المسجلة في البلاد خلال العامين الماضيين، لاسيما وأنه يحظى بعلاقة متميزة مع الرئيس سعيّد، تشكلت كطالب لديه في كلية الحقوق، ثم كمرافق له في قطاع التدريس، وكمنسق لحملته الانتخابية في مدينة سوسة، وسط شرق البلاد في أكتوبر 2019. وقد توطدت من خلال التوافقات الحاصلة بينهما فكريا وسياسيا، وفي قراءتهما المشتركة لواقع البلاد ورؤيتهما للتحولات التي تمر بها والتحديات التي تواجهها.
وقف التغلغل في الدولة
عندما أُعلن عن استقالة حكومة إلياس الفخفاخ في منتصف يوليو 2020 بدفع مباشر من حركة النهضة وحلفائها داخل مجلس نواب الشعب، اختار الرئيس سعيد الدفع بوزير الداخلية آنذاك هشام المشيشي إلى رئاسة الحكومة، انطلاقا من ثقته به كأحد أبرز الموالين له والمقربين منه، وقرر أن يكون له دور مهم في ترشيح بعض الأسماء للمناصب السيادية، وخاصة في ظل التجاذبات التي كانت قد بدأت تخرج للعلن لتشير إلى صراع على الصلاحيات بينه وبين رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي.
◙ حلفاء النهضة وفي طليعتهم حزب "قلب تونس" بزعامة نبيل القروي، خاضوا مساومات تحت الطاولة، بين فريق الأغلبية النيابية والمشيشي، للاتفاق على عزل شرف الدين بعد أسابيع قليلة من منح الحكومة ثقة البرلمان
من بين الأسماء التي تولى سعيّد ترشيحها لعضوية الحكومة كان هناك شرف الدين الذي تم تكليفه بحقيبة الداخلية، وهو ما أثار حفيظة تيار الإسلام السياسي وخاصة حركة النهضة الساعية بكل قوتها للتغلغل في مفاصل الدولة ضمن مشروع للتمكين كان يستهدف بالأساس أجهزة الأمن والجيش والقضاء، كما أزعج عددا من حلفائها المعلنين وفي طليعتهم حزب “قلب تونس” بزعامة المرشح الرئاسي نبيل القروي، ولكن المساومات التي دارت تحت الطاولة، بين فريق الأغلبية النيابية والمشيشي، أدت إلى اتفاق حول خطوات لاحقة، منها عزل شرف الدين بعد أسابيع قليلة من منح الحكومة ثقة البرلمان.
وخرجت صورة اللقاء الذي جمع تحت قبة البرلمان كلا من رئيس الحكومة المكلف المشيشي والغنوشي والقروي وزعيم ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف، والتي تمت قراءتها على أنها تحمل مؤشرات على انقلاب مبكر على خيارات مؤسسة الرئاسة، وبعد ساعات نالت الحكومة ثقة 134 نائبا من أصل 217، لكن بعد أن تعهد المشيشي لقيادة الأغلبية البرلمانية، بأن يطيح بوزير الداخلية في أول فرصة مناسبة، وبأن يراقب بنفسه عن كثب كل ما يدور داخل تلك الوزارة التي كان مشرفا عليها قبل ترشيحه لرئاسة الحكومة.
لكن محاولة شرف الدين تنفيذ سياسات مستقلة عن خيارات رئيس الحكومة المتحالف مع الإخوان، كانت قد بدأت تنذر بأزمة حكومية وسياسية قد تدفع بالبلاد إلى نفق مظلم، فيما كانت حركة النهضة قد اتجهت للضغط على المشيشي من أجل المبادرة بتعديل وزاري للإطاحة بوزير الداخلية، وهو ما كان يراقبه الرئيس سعيد عن قرب، ليتسع بون الخلافات بينه وبين رئاستي البرلمان والحكومة المتحالفتين ضده.
في الخامس من يناير الماضي، كان قرار وزير الداخلية شرف الدين بإدخال تغييرات في عدد من الوظائف الأمنية الحساسة واستبعاده مسؤولين محسوبين على حركة النهضة من مواقعهم، كافيا لإسراع المشيشي بإقالته من منصبه، وقد قال حينها ”لا يمكن أن أسمح بأي إرباك للمؤسسة الأمنية، ولا بد من احترام إطاراتها وقياداتها”، وأضاف “سأتصدى لأي عملية إرباك خاصة خلال هذه الفترة، والإقالات التي حصلت كانت بإمكانها أن تتسبب في اختراق أمني”، مردفا أن ”البناء الأمني في وزارة الداخلية متماسك ولا أسمح بأي إرباك له خاصة في هذا الظرف الذي تعرفه البلاد”.
وأعلن المشيشي أنه تم تعليق وإلغاء جميع برقيات الإقالة التي وقعها شرف الدين، نافيا بشدة أن تكون إقالة وزير الداخلية تحت أي ضغط حزبي، لكن الوضع العام كان يشير إلى سيطرة حركة النهضة على مفاصل الحكومة، وهو ما ساعدها على إجبار المشيشي على إدخال تعديل وزاري جديد للإطاحة بوزراء آخرين اعتبرتهم الحركة محسوبين على رئاسة الدولة، وقد شمل هذا التعديل 12 حقيبة، ليحظى بثقة الأغلبية البرلمانية.
ولكن وبدل أن يتجه الوزراء الجدد إلى مكاتبهم، اتجهت البلاد إلى أزمة سياسية طاحنة بعد أن رفض الرئيس سعيد دعوة الوزراء إلى قصر الرئاسة لأداء اليمين الدستورية أمامه، مؤكدا أن من بينهم من تلاحقهم شبهات فساد.
توجه المشيشي بمراسلتين إلى رئاسة الجمهورية، طالب فيهما بمدّه بقائمة أسماء الوزراء الذين يتحفظ عليهم سعيد، لكنه لم يتلق أي رد، وفي ظل غياب المحكمة الدستورية المخولة بالبت في الخلاف بين رأسي السلطة التنفيذية، اختار المشيشي ترحيل أزمة تعطل أداء اليمين الدستورية للوزراء إلى الهيئات القضائية، حيث راسل في خطوة أولى المحكمة الإدارية التي أجابته بعدم الاختصاص، ثم الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.
وفي أول تعليق رسمي له على أزمة اليمين الدستورية، اعتبر الرئيس سعيد أنه بالرجوع إلى نص الدستور، فإن رئيس الدولة غير ملزم بأجل محدد لدعوة الوزراء إلى أداء اليمين الدستورية، كما تحدث عن الخروق التي عاينها في مسار التعديل الوزاري وصولا إلى التصويت عليه في البرلمان، معتبرا أنها “حكومة على المقاس”، وفي رده على الاتهامات التي طالته بتعطيل دواليب الدولة بالتمسك برفض أداء الوزراء الجدد اليمين الدستورية، قال سعيد إنها مردودة على أصحابها، مؤكدا أن مؤسسات الدولة تعمل.
وحول اليمين الدستورية، قال سعيد إنها “ليست مجرّد إجراء شكلي، بل الأهم هو محتواها والآثار التي يجب أن تترتّب عليها”، مؤكدا أنه على العهد مع الله والشعب، مضيفا “لا أقبل بالحنث في اليمين التي أديتها ولا بخرق أحكام الدستور”.
دوامة الصراع

◙ شرف الدين يرى أن قرارات الإقامة الجبرية التي اتخذت بحق بعض السياسيين لم تأت عبثا وتستند إلى نصوص قانونية
دخلت البلاد في دوامة الصراع السياسي والحكومي، وكان لقرار إقالة شرف الدين من وزارة الداخلية الدور الأبرز في ذلك، بل السبب الذي سيكون لاحقا وراء الإطاحة بالحكومة وتعطيل البرلمان، في أبريل 2021 قرر سعيد تعيين شرف الدين رئيسا للهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية برتبة وزير، خلفا لتوفيق بودربالة، وهو ما اعتبره المراقبون المحليون رسالة مهمة مفادها أنه لن يتخلى عن أصدقائه المقربين وخاصة عندما يتعلق الأمر بمن ينسجم معهم فكريا وعقائديا ويحمل معهم نفس التصور للوضع العام في البلاد.
عرفت البلاد جملة من التجاذبات الملحّة وخاصة في ما يتصل بالصلاحيات الأمنية، حيث اعتبر الرئيس سعيد أن موقعه كرئيس منتخب للجمهورية، يمنحنه صفته القائد الأعلى للقوات المسلحة بما في ذلك القوات المسلحة الأمنية، وهو ما رفضه المشيشي الذي اعتبر أن قيادة القوات الأمنية من صلب اختصاصه كرئيس للحكومة يستند إلى الأغلبية البرلمانية الخاضعة لسيطرة الإسلام السياسي، وهو ما أزعج الرئيس سعيد حيث كان يرى أن الإخوان في طريقهم إلى التغلغل في أجهزة الدولة لأهداف أيديولوجية وحزبية يمكن أم تؤدي إلى إرباك أجهزة الدولة ككل.
كان واضحا أن المواجهة بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة الخاضعة لسيطرة رئاسة البرلمان قد بلغت أشدها، ولم يعد هناك مجال لإبقاء الوضع على حاله، بينما كان الرئيس سعيد يخطط لإحداث التغيير وفق رؤيته لمستجدات الأحداث في بلاده التي كانت تحت تأثير خطر داهم، وفق تقديره، بما دفع به إلى اعتماد المادة 80 من الدستور والتي تتيح له اتخاذ تدابير استثنائية سارع إلى تنفيذها فعلا من خلال حل الحكومة وتعليق مهام وصلاحيات مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه.
◙ جزء مهم من الشارع التونسي يعتبر أن شرف الدين مؤهل لقيادة معركة الإصلاح داخل وزارة الداخلية بعد سنوات من محاولات استهدافها من قبل الإخوان.
وفي التاسع والعشرين من سبتمبر الماضي أعلنت الرئاسة التونسية تكليف نجلاء بودن بتشكيل الحكومة الجديدة، لتصبح أول امرأة في تاريخ البلاد تتولى هذا المنصب الرفيع، فيما كانت كل المؤشرات تدل على الاتجاه نحو تعيين شرف الدين وزيرا للداخلية، وذلك لجملة اعتبارات من بينها ثقة الرئيس في صديقه المحامي، ورغبته في تأمين الجهاز الأمني وتحصينه من مؤامرات الإخوان، وإدارة الحكم المحلي بالتوجه نحو بسط نفوذ الدولة لتجاوز حالة الانفلات المربكة التي عرفتها البلاد خلال السنوات الماضية.
بعد أيام من ذلك التاريخ تحول سعيّد إلى وزارة الداخلية، وقال إنه قام بتلك الخطوة ليطمئن التونسيين بأنّ هناك وطنيين لا يزالون ثابتين وصادقين مؤتمنين على الدولة وعلى فرض احترام القانون. وأشار إلى أنّه سجّل بيانات كل من يريد التسلّل إلى مفاصل الدولة وإلى وزارة الداخلية على وجه الخصوص ”هناك من تسلّل وهناك من يسعى إلى التسلل ولكن ليتأكّد أنّه سيبقى في التسلّل فإن تهيّأ له أنّه حقق هدفا فهذا الهدف الذي يتهيّأ له لن يُحتسب وسيلفظه التاريخ وستلفظه تونس”، مضيفا أنّ هناك من تعمّدوا تفتيت الدولة وذلك بالنسبة إلى بعض الإدارات، وأفاد بأنّه واثق من أنّ وزارة الداخلية ستتصدى لهؤلاء بكلّ قوّة حتى ”يتمّ إبقاء المتسلّلين في مزبلة التاريخ”.
وأضاف قائلا ”تسلّلوا في ممرّات عديدة ويحاولون اليوم التسلّل ولا فرق بينهم وبين أبي سلول كبير منافقي يثرب، هؤلاء سيبقون في التسلل وسيبقون مع ابن سلول وسنتصدى لهم في إطار القانون ولكن ليعلموا أنّ أي محاولة للمسّ من وزارة الداخلية أو لضربها من الداخل فستواجه بأكثر مما يتوقعون وعليهم أن يمتثلوا للقانون ولقرارات وزير الداخلية ولرئيس الدولة”، مبينا أنّه لا مجال لأيّ كان لتوظيف وزارة الداخلية لتحقيق مآرب شخصية مشدّدا على أنّ وزارة الداخلية هي وزارة كلّ التونسيّين، كما لا مجال للمسّ بحيادية المرفق العمومي للأمن.
وبحسب أغلب المحللين، فإن وزارة الداخلية بما تمثله من أهمية قصوى في هيكلية الدولة، كانت تحتاج إلى إدارة قادرة على التصدي لمحاولات التغلغل الإخواني وللتجاذبات الحزبية والعقائدية التي أضرت بالأجهزة السيادية، وجعلتها عرضة للخطط العبثية من قبل الأطراف المراهنة على التلاعب بمصالح الدولة الوطنية، وهو ما دفع بالرئيس إلى وضع كامل ثقته في شرف الدين.
حسم الهواجس

◙ تولي شرف الدين لحقيبة الداخلية ما يزال يثير حفيظة حركة النهضة الساعية بكل قوتها للتغلغل في مفاصل الدولة
منذ أن تولى وزارة الداخلية، قام شرف الدين بإقالة عدد من المسؤولين وإحالة آخرين على التقاعد، وإدخال تعيينات جديدة في مناصب قيادية أفرزت تلقائيا الإطاحة بشخصيات جدلية مقربة من الإخوان، كما قرر في أواخر ديسمبر الماضي وضع نائب رئيس حركة النهضة ووزير العدل الأسبق نورالدين البحيري والقيادي الأمني المحسوب على الحركة فتحي البلدي تحت الإقامة الجبرية، وأكد لاحقا أن تلك القرارات هي قرارات إدارية ويمكن اتخاذها لمجرد وجود هواجس ومخاوف تتعلق بأشخاص أو مؤسسات ويمكن أن تشكل خطرا على الأمن العام.
يقول شرف الدين إن قرارات الإقامة الجبرية لم تأت عبثا وتستند إلى نصوص قانونية وبمقتضى أبحاث عدلية جارية حول تهم وشبهات جدية، وتابع أن الأمر الذي اتخذ بسبب قرار الإقامة الجبرية، هو تقديم شهادات جنسية وجوازات سفر بطريقة غير قانونية لأشخاص “لن أصفهم وسأترك ذلك للأبحاث القضائية”. وهو يؤكد أن القرار الإداري بالوضع تحت الإقامة الجبرية كان يستوجب الطعن فيه لدى المحكمة الإدارية من طرف معارضيه، وعدم الاتجاه إلى المغالطات والمزايدات السياسية، وأردف أن بعض الأطراف حاولت جرّ المؤسسة الأمنية إلى التجاذبات السياسية، وارتكاب جرائم تتعلق بمحاولة تحريض الأمنيين على العصيان، وهو ما يستوجب التتبع القانوني والقضائي.
قد تدفع أغلب الاستنتاجات إلى إدراك موقع شرف الدين في قلب الأحداث المسجلة في البلاد خلال العامين الماضيين، لاسيما وأنه يحظى بعلاقة متميزة مع الرئيس سعيّد
جزء مهم من الشارع التونسي يعتبر أن شرف الدين مؤهل لقيادة معركة الإصلاح داخل وزارة الداخلية بعد سنوات من محاولات استهدافها من قبل الإخوان وبعض التيارات الحزبية التي سعت إلى إدخال المؤسسة الأمنية وسلطات الحكم المحلي تحت ضغط التجاذبات اليومية بما يهدد بوضع البلاد على حافة الانهيار.
قد يكون كتب على شرف الدين أن يكون عرضة لتآمر الإخوان عليه سواء وهو في حكومة المشيشي، أو وهو في حكومة بودن، حيث ينظرون إليه كعدو لمشروعهم العقائدي ولطموحاتهم التمكينية، ويستعدون لشن حملات ممنهجة عليه، لكنه بالمقابل أمام فرصة كبيرة للإصلاح بالاعتماد على المشروعية السياسية التي تدار من خلالها البلاد حاليا.