توبي صلاح الدين يضفي على المهمشين ألوانه الحارة

المعرض الأخير في رواق “النادرة” بمدينة الرباط المغربية للفنان التشكيلي المغربي توبي صلاح الدين، أدهش زائريه بلوحات أعادت ثيمة رسم المتصوفين والفقراء وأصحاب الحرف الشعبية والمهمشين والمجذوبين “المجانين” إلى الواجهة في معارض الفنون التشكيلية في المغرب، فالوجوه المرسومة والهيئات التي بدت في كثير من لوحات المعرض تحيلك إلى ما أبدعه فنانون أتراك وإيرانيون وجزائريون ومغاربة في القرن الثامن عشر وما تلاه، وهم يبحثون في ما هو غريب وغير مألوف.
وهذا النوع من الاهتمام الفني بموضوعات صوفية وأناس هامشيين له مواصفات خاصة، منها استخدام الفنان التشكيلي للألوان الباردة: الأخضر والأزرق والبنفسجي بشكل مبالغ فيه، وأحيانا يمزج الفنان بين الألوان الباردة والساخنة كالأحمر والبرتقالي والأصفر، ليخفف من حدة الألوان الساخنة، ويجعلها أكثر حيادية، وحلمية، واللوحات المعبرة عن هذا النشاط الروحي لا تعكس فرحة الحياة فحسب، بل تعكس انطلاق الروح في فضاءات الكون، وتعطي لنبض الحركة قداسة خاصة، كما أنها تعكس انتظام المخلوقات بأنساق جميلة، بالرغم من بؤسها الظاهر، وبساطة مظهرها.
ويجدر بمستخدم الألوان لهذا النوع من الرسومات قبل المزج أن يراعي كل هذه الاعتبارات المطلوبة في لوحة تنتمي إل عالم يضع في أولوياته عالم الخيال، والانطلاق في ملكوت الله تعالى الواسع، ويجعلها معبرة عن كل ذلك، بلغة بصرية تقودك إلى الخيال أكثر مما تجعلك تقرأ الواقع القاسي.
المعرض ضم مجموعة لوحات الفنان صلاح الدين الكاملة، التي رسمها بعيدا عن الأضواء في مرسمه الخاص خلال الفترة الممتدة بين عامي 1996 و2015، أي خلال تسعة عشر عاما من العزلة، وهي فترة طويلة صبر فيها الفنان على عرض أعماله الفنية، فالفن مهما يكن مستواه الفني هو ملك للجمهور، وليس ملكا للفنان وحده بعد اكتمال عملية الرسم، ومن حق الجمهور الاطلاع والحكم عليه، ولا يحق للفنان حجبه عن الجمهور كل هذه السنوات ليظهره بعد ذلك.
لقد مات الكثير من الشواهد العاطفية والنفسية التي سيجدها الجمهور في لوحة قديمة شحبت ألوانها، وشحب موضوعها بتقادم السنوات ولم يعد يستطيع أحد تخمين الحالة العاطفية والنفسية التي حاول الفنان عكسها في كل لوحة من هذا النوع.
ومع ذلك يبقى من غرائب ما رسمه وما أبدعه صلاح الدين أن العديد من تلك اللوحات لا تزال تحتفظ بقيمتها وحيويتها من بين لوحات المعرض، وهي اللوحات الروحانية، التي رسمت وفيها ما يمت لروح الإنسان ومقدساته، التي تجدها مبثوثة فيها هنا وهناك، وهي تمثل الجوامع والمناظر الطبيعية، وأعمال الناس، كالحياكة والزراعة، والرقص الصوفي، والأبواب الخشبية التراثية المغلقة، لقد ولع الفنان برسومات تحيلك إلى زوايا وتكيات الجوامع، والرقص الفولكلوري، وحركات فارس “التبوريدة” -احتفالات الفروسية في المغرب- على ظهر جواده، والأعراس وحفلات الختان، وأعياد المسلمين كعيد الفطر والأضحى، واحتفالات الصوفيين بالمولد النبوي المشرف.
كل هذه الموضوعات تضع المهتم بفن هذا الفنان يعود بفكره إلى رسامي الصوفية الأتراك والإيرانيين، الذين اهتموا برسم راقصي المولوية، سواء في منمنماتهم أو تشخيصاتهم لحفلات الدراويش، وهم يؤدون رقصاتهم محاولين أن يعكسوا في لوحاتهم التسامي الروحي، الذي يشعر به الراقص خلال دورانه حول شيخه في حفلات الرقص والسماع الصوفي.
من جماليات اللوحات التي رآها زائر المعرض هي ما تحيل المشاهد إلى اللوحات الواقعية في التشكيل الأوروبي كلوحات غوستاف كوربيه، جون فرنسوا مليت، ودوميه هونور، وغيرهم من رواد الواقعية، فالفنان اختزن في ذاكرته الكثير من اللوحات العالمية، وحاول أن يضع روحية تلك اللوحات في ما قدمه من لوحات في معرضه الحالي.
وتعود هذه اللوحات التي رسمها الفنان إلى مرحلة مبكرة من بداياته في الرسم، وعلى سبيل المثال، فإن لوحته حائكة الصوف العجوز “صاحبة المغزل” رسمها الفنان صلاح الدين في العام 1997، ولوحته “ضارب الطبل” ولوحته “المرأة المحجبة” وغيرهما من اللوحات، كلها تنتمي لذات الفترة التي رسم فيها الفنان “حائكة الصوف” أو في بداية العام 2000، أي قبل خمسة عشر عاما، وتبقى ميزة معرض الفنان توبي صلاح الدين الأخير استفادته من تقنيات المينياتور “المنمنمات” لرسم تكيات الصوفية وكشف أسرار مريديها.
إن الإحالة ضرورية في حالة المعرض الأخير للفنان توبي صلاح الدين لتقنيات المينياتور “فن المنمنمات”، خصوصا لما جاء به هذا الفن الراقي، وما أبدعه الفنانان الإيرانيان حسين طاهر زاده وهادي تجويدي، من لوحات أطرت الكتب الدينية والتراثية، وهناك فنان آخر أبدع هذا اللون أيضا من فن المينياتور هو محمد راسم من الجزائر.