تواطؤ الأضداد في "ملاك الله والأوطان"

يرى المفكر علي حرب في كتابه “ملاّك الله والأوطان”، الصادر حديثا عن الدار العربية للعلوم – ناشرون ببيروت 2014، أن ما يحدث الآن من ثورات تقنية وتحوّلات ثقافية وفتوحات معرفية وانتفاضات سياسية يفتح إمكانية انبثاق عالم فكري جديد بمرجعياته ونماذجه بسجلاته وخرائطه.
في كتاب “ملاّك الله والأوطان” يتجلى رهان العمل الفلسفي: الاشتغال على الأفكار وفق إيقاع التحديات والأزمات والتحوّلات، وذلك من أجل تجديد العدة الفكرية التي تسهم في تغيير الواقع. يركز حرب على أن العطل يكون في الأفكار بالدرجة الأولى، أي أن العطل بنيوي، من جهة كونه قصورا فكريا عن إدراك ماهيات الأشياء وتركيبها وصيرورات تحولها.
إنها إشكالية الوضع البشري بهشاشته والتباساته ومفارقاته، كما يشير المؤلف إلى أن أصحاب هذه الشعارات والقضايا هم أول من يضربونها في مقتل: فمن كانوا من دعاة القومية هم أشرس من عادوها وحولوها إلى شعار فارغ لا قيمة له في ظل الانتكاس العربي المقيم، ومن كانوا من دعاة الإسلام هم أول من حولوا الإسلام إلى إرهاب، ومن كانوا يدعون إلى الاشتراكية هم من حوّلوا الاشتراكية إلى حالة فقر دائم للشعوب التي كانوا يدافعون عنها.
ويجد حرب مفتاح الخروج من المأزق ليس بالتشبث بدعواتنا المستحيلة واستراتيجياتنا القاتلة، بل بكسر البداهات والخروج على الثوابت بحيث نهتم بتفكيك الشيفرات التي ظللنا نصنع بها إنسانيتنا المفلسة ونحصد الإخفاق والخراب، وذلك حتى نضع على مشرحة التحليل مفاهيمنا للحقيقة والهوية والحرية والسلطة وسواهما من القضايا التي نتفانى من أجل تحقيقها.
يرى علي حرب أن العرب المتشبثين بحداثتهم وجدوا دعما لهم عند أهل الحداثة والمدافعين عنها، ولذا نراهم يحتجون بمواقف الفيلسوف “يورغن هابرماس“ الذي كان يرفض بشدة النقد الموجه للحداثة، معتبرا أن مشروع التنوير ما زال صالحا في أسسه، ولم يستنفد أو يستكمل بعد، ولذا لا داعي لنقده والحديث عن أزمته، ولكن لا شيء يستكمل بصورة نهائية أو حاسمه إلا عند ذوي العقل الأحادي المغلق، وها هو هابرماس قد تراجع عن موقفه أو قام بتطويره، كما تشهد مقولته حول “المجتمع ما بعد العلماني” وكما تشهد مناظرته الشهيرة مع الكاردينال جوزيف راتسنغر، قبل أن يصبح بابا روما تحت اسم بنديكتوس السادس عشر، إذ اعترف الفيلسوف الألماني في هذه المناظرة بأزمة العقل الحداثي والتنويري، بهذا المعنى فالتنوير هو مهمة دائمة لكشف أشكال الحجب والزيف والمصادرة والاحتكار لكل ما يتعلق بأنماط المصداقية والمشروعية.
وينتقد علي حرب ارتداد الحداثيين العرب عوضا عن أن يعتبروا الموجة الجديدة إمكانا وفرصة فتحت للانخراط في المناقشات العالمية، حول أزمة الحداثة والعقل الكوني، كما يشير إلى أن الحداثيين العرب قد تعاملوا مع العناوين والمفاهيم بعقل أصولي، دوغمائي، مما حولهم إلى ديناصورات حداثية تتخيل مستقبل العالم العربي كماضي أوروبا منذ ثلاثة قرون، وهذا يعتبر مثالا على التفكير بصورة مقلوبة، عند من يحسب المشكلة حلا، أو الفرصة مشكلة.
كما يشير حرب إلى ما يسميه بـ”الهاجس النضالي” الذي يجعل المشتغل بالفلسفة يغلب في مشاغله الاعتبارات الأيديولوجية والنضالية، لكي يتحول إلى داعية أو مصلح أو ثائر أو محرر.
وكل هذه الصور والنماذج والأدوار تتمّ على حساب النقد التنويري والصناعة المفهومية، الأمر الذي حال دون تجديد العناوين المتعلقة بالعقلانية، والاستنارة والحرية، كما يرى أن الأضداد تتواطأ.
فالعقل الأصولي القومي يخدم العقل الأصولي الديني من خلال الاشتراك في منع مناخات وأجواء الحرية والديمقراطية وسدّ منافذ التنمية والتحوّلات الاجتماعية الإيجابية، وتفخيخ الأجواء السياسية لإبقاء الحالة العربية متخلفة وعاجزة عن التقدّم والتطوّر.