تواتر جرائم قتل النساء داخل الفضاء العائلي في تونس

لا البيوت ولا الفضاء العام بيئة آمنة للتونسيات.
الخميس 2024/06/20
من يحمي النساء في تونس

تعكس الأرقام المفزعة التي سُجلت في السنوات الأخيرة لجرائم قتل النساء على يد أزواجهن، ولتنامي عدد حالات العنف ضد النساء عامة في تونس، أن البيوت لم تعد بيئة آمنة للنساء، ولا الفضاءات العامة كذلك. ويرجع خبراء علم الاجتماع تنامي ظاهرة تقتيل النساء في تونس إلى النظرة المجتمعية المتسامحة مع العنف القائم على الجنس.

تونس ـ أعادت جريمة قتل المرأة الثلاثينية على يد زوجها ذبحا بالسكين، بعد مطاردته لها في الطريق العام ثاني أيام العيد، بمحافظة القيروان (وسط) الجدل مجددا حول ظاهرة تقتيل النساء في تونس، ما يؤشر على انتكاسة تواجهها حقوق المرأة في البلد الأكثر حماية ودفاعا عن النساء في المنطقة.

وبحسب وسائل الإعلام المحلية، نشب الخلاف فجرا بين الزوجين لأسباب غير معروفة، فعمد الزوج إلى تعنيف الزوجة التي لاذت بالفرار إلى خارج المنزل، وبعد مطاردة في شوارع الولاية (المحافظة) شرع في طعنها في عدة مواطن من جسدها بطريقة انتهت بذبحها قبل أن يتدخل الجيران الذين تمكنوا من السيطرة عليه مع وصول رجال الأمن الذين قبضوا عليه.

وتعكس هذه الجريمة مثل سابقاتها عدم وجود بيئة آمنة للنساء في تونس، فلا البيوت ولا الفضاء العام مازال كذلك.

ويسود انطباع عام لدى المدافعات عن حقوق النساء في تونس بأن المرأة لم تعد آمنة في بيتها، ويستدل أصحاب هذا الرأي بالأرقام المفزعة التي سُجلت في السنوات الأخيرة لجرائم قتل النساء على يد أزواجهن، ولتنامي عدد حالات العنف ضد النساء عامة.

ودقت جمعيات نسوية ناقوس الخطر، محذرة من عواقب استمرار هذه الظاهرة مقابل عجز الدولة عن إيجاد حلول للحد منها.

فتحية السعيدي: جريمة تقتيل النساء امتداد للعنف داخل الأسرة
فتحية السعيدي: جريمة تقتيل النساء امتداد للعنف داخل الأسرة

وكمثال على تنامي العنف ضد النساء، قُتل ما لا يقل عن 25 امرأة عام 2023 و15 امرأة عام 2022. ووفق دراسة عن عدد جرائم قتل النساء العام الماضي بعنوان “سكوتنا قاتل” قام بها الاتحاد الوطني للمرأة (حكومي)، قُتلت 25 سيدة، 54 في المئة منهن على يد أزواجهن.

وقالت رئيسة الاتحاد راضية الجربي إن معظم أسباب جرائم القتل ضد النساء على أيدي أزواجهن تعود إلى خلافات عائلية تتعلق بشكوك تحوم حول الخيانة أو رفض الطلاق أو لأسباب اقتصادية. وتعتبر ذلك مؤشرا خطيرا على تراجع كبير في مستوى العقليات في تونس، رغم كل الحملات التي تنظم من أجل الدفع نحو احترام حقوق النساء.

ويذكر أن تونس سجلت، بحسب إحصائيات رسمية، نحو 70 جريمة قتل للنساء داخل الفضاء العائلي خلال الخمس سنوات الأخيرة، بينها 25 نفذت خلال العام المنقضي، وسط دعوات منظمات نسوية إلى إنفاذ القوانين ضد الجناة وعدم تكريس سياسة الإفلات من العقاب.

وكان التقرير السنوي حول جرائم قتل النساء لسنة 2023، قد اعتبر أن ظاهرة تقتيل النساء في تونس، غالبا ما تكون ناتجة عن التمييز الجنساني والسيطرة الذكورية والعنف الأسري والزواج القسري والثقافة والعادات التقليدية والتناول الإعلامي المسيء للنساء وغيرها من العوامل.

وورد التقرير بعنوان “تقتيل النساء: الظاهرة المسكوت عنها” ونشرته كل من جمعية “أصوات نساء” وجمعية “المرأة والمواطنة” بالكاف.

بينما أرجعت الباحثة في علم الاجتماع فتحية السعيدي تواتر جرائم تقتيل النساء في تونس إلى “النظرة المجتمعية المتسامحة مع العنف القائم على الجنس”.

وقالت السعيدي إن “قتلهن يعود لكونهن نساء يواجهن نظرة مجتمعية متسامحة مع العنف القائم على الجنس، وتستبيح جسد المرأة باعتبارها موضوعا وليس ذاتا بشرية”.

وأثبت تقرير وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، حول الرصد الأوّلي للخصائص الاجتماعيّة والاقتصاديّة للنساء ضحايا جرائم القتل ولملامح القائمين بالجريمة، أن جرائم قتل النساء تضاعفت أربع مرّات من 2018 إلى حدود يونيو 2023.

معظم أسباب جرائم القتل ضد النساء على أيدي أزواجهن تعود إلى خلافات عائلية تتعلق بشكوك تحوم حول الخيانة أو رفض الطلاق

وكشف التقرير أن الزوج هو القائم بالجريمة في 71 في المئة من هذه الجرائم.

وأثارت جرائم تقتيل النساء قلق منظمات وجمعيات حقوقية ونسوية في الآونة الأخيرة، وسط تسجيل 25 جريمة في سنة 2023، وفق التقرير السنوي الأخير حول جرائم قتل النساء لكل من جمعيتي “أصوات نساء” وجمعية “المرأة والمواطنة بالكاف”.

واعتبرت السعيدي أن تقتيل النساء هو “قتل عمد يقوم على أساس النوع الاجتماعي”، مؤكدة أن جريمة تقتيل النساء امتداد للعنف داخل الأسرة أو الفضاء العام وتمثل أقصى أشكال التمييز والعنف المسلط ضد النساء حسب التعريفات الدولية.

وتطرّقت أيضا إلى العنف “الرمزي” الذي يمرّر عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة..) التي دائما ما تؤسس لمظاهر التفرقة بين الإناث والذكور وتحاول إخضاع أجساد الفتيات للسلطة الذكورية والمعايير الاجتماعية التمييزية.

وشددت على أنه لا يمكن تبرير جريمة تقتيل النساء مهما كانت الأسباب، وذلك رغم تعدد العوامل المؤدية إلى انتشار العنف المسلط ضد النساء وارتفاع منسوب الظواهر الاجتماعية (السرقة، القتل..)، وخاصة خلال فترات الأزمات والانحسار الاجتماعي والانكماش الاقتصادي والضغوطات النفسية والاجتماعية التي تقوّي “رغبة إخراج الشحنة الانفعالية”.

راضية الجربي: تراجع كبير في مستوى العقليات في تونس
راضية الجربي: تراجع كبير في مستوى العقليات في تونس

وفي إجابتها عن سؤال عما إذا كانت جريمة تقتيل النساء ظاهرة اجتماعية، قالت “من الممكن تصنيف تقتيل النساء ظاهرة لأنه مرتبط بالعنف والعنف ظاهرة اجتماعية متفشية”، لاسيما في ظل ارتفاع منسوب العنف ضد المرأة وتنامي الإفلات من العقاب رغم صدور القانون 58 المتعلق بمكافحة العنف ضد المرأة.

وأشارت في هذا السياق إلى ترسخ النظرة الدونية للمرأة في المخيال الجمعي والثقافي.

وكانت جمعية أصوات نساء قد كشفت في أبريل 2024 أنها رصدت 7 جرائم قتل نساء منذ بداية سنة 2024 إلى غاية الثاني عشر من أبريل 2024.

وقالت، في بيان لها، إن “الارتفاع المتواصل لحصيلة جرائم قتل النساء في السنوات الأخيرة يبين ضعف الهياكل المختصة والسلطات في تقدير المخاطر والاستخفاف بمظاهر العنف الزوجي واتخاذ التدابير اللازمة لحمايتهن”.

كما اعتبرت الجمعية أنّ هذا الارتفاع في عدد جرائم قتل النساء هو نتيجة ‎ للّا مبالاة المستمرة للدولة بخطورة العنف الممارس ضد النساء في الفضاء الخاص رغم الحصيلة المفزعة لسنة 2023، حيث بلغ عدد جرائم قتل النساء خلالها 25 أي ما يقارب معدل امرأتين كل شهر.

وقالت الجمعية إنّ “هذا الأمر يخلق فوضى في المجتمع ويثير القلق والجزع بين النساء، خاصة في ظلّ تخاذل الدولة وصمتها المريب الذي يزيد من حدّة الظاهرة، إضافة إلى عدم اتخاذها إجراءات صارمة ضد الجناة وعدم التطبيق الفعلي للقانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بمناهضة العنف ضد النساء”.

ورأت جمعية أصوات نساء أنّ ذلك “يعكس فشل الدولة بكافة منظوماتها ومؤسساتها في التصدي لظاهرة العنف في شتى أشكالها”، معقبة أنّ “ارتفاع عدد جرائم قتل النساء إن دلّ على شيء فهو أنّ الدولة لا تبذل أي مجهودات في نشر الوعي المجتمعي للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة، وفي حماية النساء، أو في تبني إستراتيجيات فعّالة وجادّة للحد من الجرائم الموجهة ضد النساء”، حسب نص البيان.

من جانبها، أطلقت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات رسميا الخارطة التفاعلية لجرائم قتل النساء في تونس تحت اسم “تونس القتيلات” بمناسبة إحياء اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة وانطلاق الحملة الدولية السنوية “16 يوما من النضال ضد العنف المسلط على النساء” التي انتهت بتاريخ العاشر من ديسمبر 2023.

جرائم قتل النساء تضاعفت أربع مرّات من 2018 إلى حدود يونيو 2023

وتهدف الخارطة التفاعلية إلى تحديد الأماكن التي فقدت فيها النساء والفتيات حياتهن بعد أعمال العنف المرتكبة ضدهن.

كما تهدف هذه الخارطة التفاعلية إلى رفع مستوى الوعي بخطورة قتل النساء في تونس إلى جانب تزويد الناشطات النسويات بأدوات المناصرة والشهادات وقصص الحياة المؤثرة لوضع حد لجرائم قتل النساء وإدانة إخفاقات الدولة في حماية المرأة.

وتسعى الخارطة بشكل خاص، وفق الجمعية، إلى الإجابة على جملة من الأسئلة تتعلق بموقع حدوث الجرائم وطريقة القتل والعلاقة مع الضحايا، علاوة على عدد الضحايا حسب الفئة العمرية والحالة المدنية للضحية.

وقالت رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات نائلة الزغلامي إن إطلاق هذه الخارطة التفاعلية يعد التجربة الأولى في المنطقة العربية سبقتها تجارب في أميركا اللاتينية وفي إسبانيا، مشيرة إلى أنه سيقع تحيين هذه الخارطة عند تسجيل حالات جديدة لتسهيل العمل على من يبحث عن معطيات حول هذه الظاهرة وعن الضحايا.

وستتيح الخارطة التفاعلية حول جرائم قتل النساء تعزيز التشبيك بين الجمعيات التونسية المختلفة العاملة في مجال مكافحة جرائم قتل النساء من حيث جمع وتحديث وتبادل ونشر المعلومات.

وقالت الزغلامي إنّ جرائم القتل التي تستهدف النساء لا ينبغي التعامل معها كمجرّد أرقام بل إنّ كلّ جريمة وراءها قصّة معاناة انتهت بالقتل، تكشف ثقافة ذكورية وثقافة مجتمع غير متسامح مع جسد المرأة ويريد السيطرة عليه.

وأوضحت الزغلامي أنّ هناك جهات تنتشر فيها هذه الظاهرة أكثر من غيرها على غرار ولايات الكاف والقيروان وتونس الكبرى.

وتظهر البيانات التي أوردتها الجمعية أن عدد الضحايا في تونس اللواتي قتلن على أيدي أزواجهن، بعد اعتياد سوء معاملتهن وتعنيفهن، تجاوز 27 امرأة منذ بداية سنة 2023.

15