تهويدات النوم.. أمهات الأغاني مرآة للمجتمعات

كلمات عن الحب وأخرى عن الموت والعنف تقدم صورا عن الشعوب والأفراد.
السبت 2025/06/14
التهويدة لغة الأمهات من مختلف الشعوب

التهويدات ليست أغاني ترددها الأمهات والآباء للطفل كي ينام، إنما هي جزء من تاريخ الشعوب وتقدم صورة مهمة عن المجتمعات، وكلماتها تؤثر تأثيرا كبيرا في شخصية الطفل الذي لن ينسى مهما كبر أغنيات ربطته بمصدر الأمان الأول في حياته. وهذا ما تؤكده دراسات غربية وخبراء في الموسيقى والتاريخ.

أوسلو – لم تكن التهويدات في مختلف الشعوب حول العالم مجرد ترديد لكلمات كي ينام الطفل وترتاح الأم من ضجيجه وحركته المبالغ فيها وربما بكائه. والتهويدات أيضا ليست دائما بنفس رقة “نم يا صغيري، نم!” هذه الأغنية الكلاسيكية التي تعود إلى قرون.

يقول شتيفان أوبينيه، عالم الموسيقى من جامعة أوسلو، “غالبا ما نربط التهويدات بألحان هادئة وكلمات بريئة تهدف إلى تهدئة الأطفال. ومع ذلك، هناك نطاق واسع من التهويدات: من الأغاني المبهجة والمتناغمة إلى الأغاني ذات الكلمات الكئيبة والعنيفة.”

ويوضح أوبينيه أن في واحدة من أغرب التهويدات التي يعرفها، من النرويج مثلا، يهدد الطفل بالشد من ساقه وضربه بالحائط إن لم ينم. وفي روسيا ودول البلطيق كثيرا ما تصف التهويدات جنازة الطفل بالتفصيل. وفي “روك – أ – باي بيبي”، إحدى أشهر التهويدات في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية، ينكسر الغصن الذي يستلقي عليه الطفل في سريره.

ويجمع أوبينيه أدبيات عالمية حول التهويدات وأغاني النوم، من أقدم تهويدة مدونة، والتي وجدت في بلاد الرافدين القديمة ويرجع تاريخها إلى حوالي عام 2000 قبل الميلاد، إلى الابتكارات الحديثة مثل التطبيقات الصوتية والتهويدات الحديثة للأطفال الصغار.

مرآة المجتمع

الكثير من الناس لا يزالون يتذكرون تهويدات طفولتهم، فالغناء ممارسة عالمية للآباء والأمهات في جميع أنحاء العالم

تقول عالمة الموسيقى ميريام أكرمان من الجامعة التقنية في دريسدن وجامعة برلين الحرة “التهويدات دائما ما تكون انعكاسا للمجتمع وعصره”. وأكرمان منسقة شبكة “لولابايت” “Lullabyte”، التي تدرس تأثير الموسيقى على النوم. ووفقا للخبراء، تعد كلمات الأغاني عموما وسيلة لمعالجة التجارب الشخصية، والتجارب المرهقة، ومشاعر مثل الإحباط أو الغضب.

وأشارت أكرمان إلى تراجع في قيام العائلات بالغناء لأطفالها الصغار، بحسب بيانات مجلس برلين للموسيقى، مضيفة أن هذا ينطبق أيضا على الأرجح على التهويدات. ورغم عدم وضوح الأسباب، تستبعد أكرمان أن يكون ذلك بسبب نقص المعرفة، مشيرة إلى أن الكثير من الناس لا يزالون يتذكرون تهويدات طفولتهم، حسبما يتضح من مشروع “برلين تغفو”، الذي يجمع تهويدات من أشخاص منحدرين من أكثر من 170 دولة في برلين.

وتظهر نتائج دراسة نشرت في دورية “تشايلد ديفيلوبمينت” التأثير الإيجابي للأغاني، التي يغنيها مقدمو الرعاية بأنفسهم، على صحة الأطفال. فقد أظهرت الدراسة أن عندما شجعت الأمهات ومقدمات الرعاية على الغناء لأطفالهن بشكل متكرر باستخدام برنامج موسيقي متاح على الهواتف الذكية، استشعرن تزايد عافية الأطفال.

وبحسب الدراسة، كانت تتم الاستعانة بالغناء بصورة تلقائية للتهدئة في المقام الأول. ويرجح فريق البحث بقيادة إيون تشو من جامعة ييل في مدينة نيو هيفن الأميركية أن تأثير ذلك مفيد لكل من الطفل ومقدم الرعاية، على غرار التلامس الجسدي المباشر.

وبحسب الباحثين، يعد الغناء ممارسة عالمية للآباء والأمهات في جميع أنحاء العالم، ولا يتطلب معدات خاصة أو تدريبا، ويمكن للجميع أداؤه.

وجاء في الدراسة “بالنسبة لأطباء الأطفال والمهنيين الذين يعملون مع العائلات، فإن التوصية بالمزيد من الغناء مع الطفل هي إستراتيجية عملية وسهلة التطبيق لتعزيز رفاهة الطفل.”

ووصف الشاعر الإسباني رودريجو كارو (1573 – 1647) التهويدات بأنها “أمهات كل الأغاني وأغنية كل الأمهات”، وهو ما يعكس بدقة أهميتها الخاصة، على حد تعبير أوبينيه. ووفقا لتحليله، تستخدم الأغاني لمساعدة الأطفال على النوم في 97 في المئة من الثقافات الـ124 التي شملها تحليله، موضحا أن نسبة كبيرة من تلك الثقافات لديها مجموعة محددة من التهويدات، بينما تلجأ البقية إلى أشكال موسيقية أخرى متنوعة: من الموسيقى الشعبية إلى الأغاني الدينية والارتجال والدندنة.

كل طفل له أغنيته الخاصة

“أغنية المهد” (لوحة: فرانسوا نيكولاس)
"أغنية المهد" (لوحة: فرانسوا نيكولاس)

وفقا لأوبينيه، يوجد تقليد خاص لدى “اللابيين”، وهم أحد الشعوب الأصلية في شمال أوروبا، حيث يحصل كل طفل على لحنه الخاص الذي يشكل هويته، ويسمى “دوفدنا”. كما توجد تقاليد مماثلة للأغاني المخصصة لكل طفل لدى ثقافات الإنويت في ألاسكا وكندا وجرينلاند، وكذلك لدى الشعوب الأصلية في سيبيريا.

من ناحية أخرى، تعد الأغاني المفعمة بالبهجة والأمل سمة مميزة للعديد من دول شمال وغرب أوروبا. يقول أوبينيه “في القرن التاسع عشر، ازدادت كلمات تهويدات في غرب أوروبا رقة وجمالا”، موضحا أن ذلك يعكس نظرة رومانسية جديدة للأطفال ككائنات بريئة.

 وقال “وهكذا نشأت البعض من أشهر تهويداتنا، من بينها ‘تهويدة العمل الموسيقي رقم 49’ لبرامز، والتي يمكن العثور عليها في عدد لا يحصى من صناديق الموسيقى.”

تهويدات اليابان تبتعد عن تصوير عالم مثالي، إحداها تدور حول غمر طفل في الماء عندما يبكي

ويشير أوبينيه إلى أن تهويدات اليابان التي ترجع إلى أوائل القرن العشرين تبتعد كل البعد عن تصوير عالم مثالي، حيث تدور إحدى التهويدات على سبيل المثال حول وضع طفل في كيس من القش وغمره في الماء عندما يبكي، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن الفتيات المنحدرات من عائلات فقيرة واللواتي عملن مربيات لدى عائلات ثرية، كن يعبرن عن إحباطهن من حياتهن الصعبة عبر كلمات التهويدات، مثل تلك التهويدة السلوفانية “ماذا تحتاج يا صديقي الصغير، يا ولدي العزيز، يا ابني الحبيب؟ فتاة ذات روح حمقاء أم بلا خاتم زواج؟”

ويوضح أوبينيه أن التهويدة هنا تدور حول أم شابة لديها طفل غير شرعي، وقال “إنها تمثل شكلا من أشكال الرثاء واسع الانتشار.”

ويبدو أن كثيرين لم يعوا لفترة طويلة كلمات التهويدات، التي تتسم أحيانا بالكآبة: فقد أشارت ردود الكثيرين على مشروع “برلين تغفو” إلى أنهم لم يبدأوا في التفكير في كلمات التهويدات التي اعتادوا سماعها منذ فترة طويلة إلا خلال مشاركتهم في المشروع.

وفقا لعالمة الموسيقى أكرمان، فإن الاتجاه السائد حاليا هو أن البالغين يستعينون بالموسيقى بشكل متزايد لمساعدتهم على النوم. وأشارت إلى أن بعض الناس يدخلون في النوم فعلا بشكل أسرع عند سماع الموسيقى، إلا أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان ذلك يعود إلى الموسيقى نفسها أم إلى الطقس المعتاد للاستماع إلى الموسيقى قبل النوم، وقالت “لطقوس النوم عموما تأثير إيجابي للغاية.”

وبوجه عام لا يقتصر استخدام التهويدات على إدخال الأطفال الرضع في النوم فحسب، بل كان الخدم يغنون أيضا للملوك والحكام، وأحيانا كانت تصدر لهم الحيوانات أيضا أصواتا موسيقية، حسبما أوضح أوبينيه الذي أردف قائلا “في بعض الثقافات في منغوليا وأجزاء أخرى من آسيا، كانت تغنى التهويدات للأغنام أيضا”، موضحا أن في أسكتلندا في القرن التاسع عشر كانت تغنى ما يعرف باسم “أغاني حظيرة الحلب” للأبقار وغيرها من الماشية لتهدئتها.

14