تنظيم القاعدة يخطب ود الولايات المتحدة لجني ثمار كفاحه مع حركة طالبان

يحاول تنظيم القاعدة الاستفادة من الانسحاب الأميركي من أفغانستان من خلال اعتماده منهجية جديدة يستنسخ فيها تجربة حزب الله اللبناني في سوريا ويربط فيها بين مجموعاته الإرهابية في البؤرتين بهدف فرض المشروع السني للجماعة في البلاد حيث ستكون الساحة الأفغانية الانطلاقة الجديدة لمشروعهم المفترض. ومن خلال تأقلمه مع الأوضاع والمستجدات يخطب التنظيم ود الولايات المتحدة أملا في اكتساب شرعية وجود سياسية ما يجعله قابلا للتوظيف من قبل واشنطن أو القوى الغربية وذلك لضمان جني ثمار كفاحه مع طالبان التي تتطلع للهيمنة على السلطة وعلى نفوذ سياسي أكبر في كابول.
أرخى الانسحاب الأميركي من أفغانستان بظلاله على مسرح الجماعات الجهادية في العالم، وقد يصبح تنظيم القاعدة أحد أكبر المستفيدين من المتغيرات الجارية مدشنا واقعا جديدا يربط بين مجموعاته الكامنة في أفغانستان حيث الجبال الوعرة، وتلك الناشطة في الشمال السوري.
ولا يقتصر الربط الحركي للقاعدة بين البؤرتين الرئيسيتين لنشاطه في سوريا وأفغانستان على التوظيف المحدود والنفعي لبعض المقاتلين المدربين الذين يجري نقلهم من شمال سوريا إلى أفغانستان، وغالبيتهم إما من المنتمين لتنظيم “حرّاس الدين” أو من المنشقين عن “هيئة تحرير الشام”، وهو الذي كشفته قوائم أسماء ضحايا بعض العمليات التي استهدفتهم حينما كانوا يقاتلون في صفوف طالبان.
وتكمن حركية القاعدة الأعمق والأكثر ابتكارا وقابلية للاستمرار في استيعاب المجموعة القاعدية المتواجدة في أفغانستان لتجربة التنظيم في سوريا وصولا إلى اعتناق قناعة مفادها أن اسم القاعدة صار عبئا على أيّ جماعة، ولكي يضمن التنظيم البقاء ينبغي أن يتطور ويتأقلم مع المستجدات ويتعاطى مع الأطراف الفاعلة من منطلق المصلحة وليس الأيديولوجيا.
وباتت “هيئة تحرير الشام” في سوريا التي أثارت تجربة طالبان إعجاب قادتها وشجعتهم على أن يتحركوا باتجاه المحلية والتخلي عن عناوين تنظيم القاعدة وأدبياته القديمة، تراقب باهتمام الخروج الأميركي من أفغانستان، ليس أملا في نجاح ملهمتها الأفغانية فحسب، وإنما لمد نفوذ مبني على منهجية جديدة من سوريا إلى أفغانستان يمكّن الجهاديين السنة من اكتساب شرعية وجود سياسية ومن اعتراف بعض الأطراف الدولية بهم.
مشروع سني
تفاعلت حسابات الناشطين والجهاديين السوريين مؤخرا على التليغرام وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي مع تصريحات المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد على خلفية إعلان أنقرة بقاء قواتها في أفغانستان لحماية مطار كابول مُعربا عن انزعاج حركته من “تصرفات تركيا التي تتعامل معهم مثل تعاملها مع الفصائل السورية، وليس مثل حكومة طرابلس في ليبيا”.
وعكست غالبية المنشورات وعيا بطبيعة ما يستند إليه القيادي في طالبان عندما فرّق بين أوضاع الجهاديين السنة في كل من سوريا وليبيا وأفغانستان وفق ما يحظون به في كل بلد من شرعية ومن اعتراف دولي وإقليمي بهم.
في حين أخذ البعض منهم على حركة طالبان تهاونها وتنازلاتها التي تخالف عقيدة الولاء والبراء خاصة في ما يتعلق بعلاقاتها مع إيران، ودعا غالبيتهم في المقابل إلى تقليدها سواء في ضراوة القتال والتصميم على النصر في الميدان الحربي أو في المرونة السياسية وتنويع العلاقات والتحالفات والتكيف مع الخارج ومع المجتمع المحلي.
واتضح أن الجهاديين السنة في سوريا من خلال تفاعلهم مع الأحداث الجارية في أفغانستان يطمحون إلى استنساخ نموذج حزب الله اللبناني الموالي لإيران ونسخه الشيعية الأخرى في المنطقة العربية، بحيث تكون الساحتان السورية والأفغانية نقطتي انطلاق هذا المشروع المُفترض.
ويظهر طرح قادة القاعدة خطط التنظيم على المدى البعيد في ما يتعلق بتشكيل كيانات محلية ذات نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري في أكثر من بلد، بحيث تدعم هذه الكيانات بعضها بعضا لنيل الشرعية من الأطراف الدولية ولتشكيل حالة سنية موازية كقوى فاعلة غير حكومية يتغلغل نفوذها في المجتمعات المحلية وتملك النصيب الأكبر من القدرات الأمنية.
بعد أكثر من عقدين يعود تنظيم القاعدة نتيجة تضاؤل أهميته على المسرح العالمي في ركاب طالبان مختلفا اختلافا جوهريا عن المنظمة التي بناها بن لادن
وتكشف هذه الطروحات حجم الهوة بين ما يتوهّمه بعض أنصار القاعدة وفق تفاعلهم الحماسي مع بعض بيانات التنظيم المركزي الذي فقد الكثير من نفوذه وحضوره، مقابل التوجهات الفعلية للتنظيم خاصة داخل ساحتيه الرئيستين اللتين يعول عليهما لبناء مستقبله في أفغانستان وسوريا، وقوامها خلع عالمية التنظيم والتنصل من اسم القاعدة وعدم استفزاز القوى الدولية أو الدخول في صراع مع قوى إقليمية فاعلة، والانضواء داخل تجربة حكم محلية بأبعاد اقتصادية وعسكرية وأداء سياسي مرن.
وبحسب بعض التقارير الأممية وتصريحات كبار الساسة والباحثين الغربيين، فإن العلاقة بين طالبان والقاعدة قائمة، وهناك تعاون متعدد الأوجه بين الحركة والتنظيم على الأرض، وإن كان قادة طالبان يحرصون على نفيها علانية حتى لا يثيروا حفيظة القوى الدولية، ويوجد توافق ضمني على تثبيت هذا الواقع الحركي الخفي باعتبار أن الجهاديين السنة، حتى موعد تمكين طالبان من السلطة في أفغانستان، في حالة ضعف على مختلف الساحات.
لذلك لا يسمح قادة طالبان لعناصر تنظيم القاعدة وقادته بالخطابات الحماسية فارغة المضمون انتظارا التحولات المرتقبة في المشهد الأفغاني والتي من المرجح أن ترفع أسهم القاعدة بشكل غير مباشر، وتحل الكثير من المعضلات التي تؤرق التنظيم في العديد من المناطق في مختلف دول العالم.
وتنتظر نسخ القاعدة هيمنة طالبان على مقاليد الأمور في أفغانستان بفارغ الصبر، بالنظر لما يمكن أن تفتحه الحركة من أبواب لكيانات التنظيم التي أبدت تطورا وفق المنهجية الجديدة وعلى مقاس أداء طالبان لتلقي الدعم الدولي وتبريد الصراعات والمواجهات التي تهدد وجود تلك النسخ خاصة في الساحة السورية.
وإذا كانت “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على معظم منطقة إدلب وشمال غربي سوريا تعادي روسيا وإيران ولديها مشكلة مع الصين التي تنكّل بالإيغور، فطالبان التي تنفتح في علاقاتها مع هذه القوى يمكنها مستقبلا أن تروّج لنسخ تتحرك تحت غطائها السياسي في أكثر من ساحة تلتزم بما تعهدت به طالبان للقوى الكبرى بشأن منع النشاط العابر للحدود، ما يجعلها أكثر مرونة وتقبلا لنسخ القاعدة التي حاكت منهجية طالبان.
يعني ذلك أن طالبان تصبح بعد صعودها المرتقب في أفغانستان هي القوة المسؤولة عن تنظيم القاعدة في طوره الجديد، كمسؤولية إيران وانتفاعها من وكلائها وميليشياتها المسلحة الموالية لها في عدد من الدول العربية.
واشنطن والقاعدة الجديدة
وفق ما أقدمت عليه الولايات المتحدة بشأن سحب قواتها من أفغانستان، فإنها لا تشعر بخطر يتهددها حِيال صعود طالبان مع التيقن من استمرار علاقاتها الحركية والتنظيمية مع القاعدة، لأن واشنطن تعلم مقدار ما أحرزته من تقويض لمقدرة القاعدة على تهديد مصالحها، فضلا عن إدراكها لمقدار حاجة طالبان للتحرك داخل المساحة التي رسمها الأميركيون إذا رغبت في البقاء والمشاركة في السلطة.
ويسهل فهم التحولات الجارية في صلب منهجية القاعدة من خلال متابعة أساليب التعاطي الأميركي مع الوضع في أفغانستان التي هي بمثابة دولة محورية بالنسبة إليها في سياق التنافس مع الصين، وليس من المنطقي أن ترحل عنها وهي تؤوي الخطر الذي استدعاها لدخول البلاد قبل عقدين على إثر
هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي نفذها تنظيم القاعدة بمعاونة حركة طالبان.
ولم تخرج الولايات المتحدة من أفغانستان لأنها حققت أهدافها المعلنة كما يتردد على ألسنة مسؤوليها والمتمثلة في إضعاف تنظيم القاعدة وقتل أسامة بن لادن، لكن لأنها باتت مطمئنة لما طرأ على منهجية القاعدة في بعض الساحات من تحولات تجعل معاودة مهاجمة الأهداف الأميركية مستبعدة، وإلا فإن عودتها وعودة القوات الدولية في هذه الحالة غير مستبعدة.
ويصبح تنظيم القاعدة وفق المنهجية الجديدة في سوريا وأفغانستان أقرب إلى أداة تحقق مصالح الولايات المتحدة بشكل غير مباشر، خاصة أنه منضو تحت لواء حركة أعطتها الإدارة الأميركية الشرعية للانخراط في المشهد السياسي في أفغانستان مقابل تعهدها بمنع استهداف مصالح الولايات المتحدة وحلفائها انطلاقا من الأراضي الأفغانية.
ويتسق هذا التصور مع روح اتفاق فبراير 2020 بين إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وحركة طالبان، فالمقصد ليس النأي عن التنظيم وفك الارتباط به، إنما منع أي جماعة إرهابية من شن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها من الأراضي الأفغانية.
والمستهدف في هذا الحالة ليس تنظيم القاعدة الذي يُطور منهجية جديدة داخل سياقات حكم محلية بمعزل عن القناعات والأفكار القديمة وعن الجهاد المعولم العابر للحدود، بل سيكون هو التنظيم الذي تناصبه القاعدة العداء في سوريا أو في أفغانستان وهو داعش الذي خرج من الأولى بعد سقوط خلافته إلى أرض الجهاد الجديدة في أفغانستان ساعيا لوراثة مركز النفوذ التقليدي للقاعدة وطالبان.
العلاقة بين طالبان والقاعدة قائمة، وهناك تعاون متعدد الأوجه بين الحركة والتنظيم على الأرض، وإن كان قادة طالبان يحرصون على نفيها علانية حتى لا يثيروا حفيظة القوى الدولية
ويبحث تنظيم القاعدة اليوم، وهو الذي أشعل فتيل أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة خارج ديارها عبر التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر من أفغانستان، عن سياق يجعله قابلا للتوظيف من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية، بالتوازي مع ما يجري من توظيف لطالبان ليحجز مكانا في مستقبل أفغانستان، مدركا أن من يجني المكاسب الأكبر الأكثر براغماتية وتلونا.
ووراء الاقتتال الدائر بين داعش والقاعدة في سوريا وأفغانستان ليس فقط إثبات القوة والريادة وإحراز الهيمنة والغلبة، إنما يتوخى تنظيم القاعدة الظهور أمام الأميركيين كحالة مختلفة ومتطورة، قادرة أولًا على الإنابة عن القوى الغربية لتقويض الخطر الإرهابي الراهن على دولهم ممثلا في تنظيم داعش، وقابلة ثانيا لأن تكون إلى جانب طالبان كحركة تستخدم أدوات السياسة لتحقيق أهدافها وليس فقط باستخدام العنف والسلاح.
وفي أعقاب تفجيرات القاعدة للسفارات الأميركية في نيروبي ودار السلام في أغسطس 1998 أبدى أسامة بن لادن رغبته في العثور على أرض آمنة تكون قاعدة لعمليات جماعته في العالم وسمحت الصفقة مع طالبان بذلك حيث صارت الحركة الأفغانية هي الأرض وتنظيم القاعدة هو الدولة.
والآن بعد أكثر من عقدين يعود تنظيم القاعدة نتيجة تضاؤل أهميته على المسرح العالمي في ركاب طالبان مختلفا اختلافا جوهريا عن المنظمة التي بناها بن لادن وتوسعت منذ أكثر من ثلاثين عاما.
وبصرف النظر عن الدعاية الحماسية التي يطلقها بعض عناصر القاعدة أو بعض منظريه المنزوين والمنعزلين عن الأحداث من أمثال الأردني أبومحمد المقدسي؛ فالتنظيم فعليا يخطب ود الولايات المتحدة في كل من سوريا وأفغانستان لضمان جني ثمار كفاحه مع طالبان التي تتطلع للهيمنة على السلطة وعلى نفوذ سياسي أكبر في كابول.
وفي طريقه لاستقطاب داعمين وممولين وقوى دولية تمنحه الشرعية ولتكريس حالة ميليشياوية سنية شبيهة بنموذج حزب الله اللبناني يتأهب تنظيم القاعدة لربط حركيته ومنهجيته الجديدة بين سوريا وأفغانستان.
وفي هذه الحالة لن يحمل تنظيم القاعدة اسمه القديم ولن يعتنق أفكاره ومنهجيته التقليدية، إنما سيتأهب للعمل مع السكان المحليين مطورا من قدراته الاقتصادية والأمنية والعسكرية، ومتفانيا في تقويض الأعداء المشتركين بينه وبين الغرب والولايات المتحدة، وفي مقدمتهم تنظيم داعش.