تنامي ظاهرة الاعتزال ينذر بتصحر سياسي في الجزائر

تواجه الجزائر حالة تصحر سياسي مع تنامي ظاهرة اعتزال فاعلين بارزين العمل السياسي، ويربط متابعون هذا الوضع غير المسبوق بالتضييق الكبير الذي تتعرض له الساحة السياسية والحزبية في البلاد وتسخير السلطة القائمة كل أدواتها لإخضاع خصومها.
الجزائر - توالت الإعلانات عن اعتزال العمل السياسي في الجزائر بشكل لافت في الآونة الأخيرة، مما يمهد الطريق لمشهد سياسي غير مسبوق، ويلمح إلى وضع غير طبيعي بصدد التشكل.
وأعلن الوزير وأمين عام حزب التجمع الوطني الديمقراطي سابقا عزالدين ميهوبي عن اعتزاله العمل السياسي، بعد قرار مماثل اتخذه الناشط المعارض رشيد نكاز، من سجنه، وقبله كان القيادي في جبهة العدالة والتنمية لخضر بن خلاف قد أعلن عن الاستقالة من قيادة الحزب.
وذكر ميهوبي، الذي ترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة، في رسالة له أنه قرر اعتزال العمل السياسي والتفرغ للكتابة والنشاط الفكري، على اعتبار أنه شخصية أدبية ومؤلف العديد من الأعمال الروائية والفنية.
وقال "لفتَ انتباهي في الآونة الأخيرة، مثل الكثير من الناس، ورود اسمي في أخبار أو مقالات بمواقع إلكترونية، ضمن قراءات وتكهنات لا صلة لي بها، بل إن أغلبها مغرض ويهدف إلى نشر مغالطات، أبرّئ نفسي منها، وقد اقتضى الأمر مني إصدار هذا البيان للرأي العام".
◙ الجناح الذي دعم ترشح عزالدين ميهوبي في الانتخابات السابقة، تعرض لحملة تطهير شملت مسؤولين أمنيين
وإن لم يتطرق ميهوبي إلى الأسباب التي دفعته إلى اعتزال العمل السياسي، فإن الفرضيات المحتملة تصب كلها في خانة حالة الانغلاق التي تعيشها البلاد منذ وصول الرئيس عبدالمجيد تبون إلى قصر المرادية في ديسمبر 2019، حيث يسجل تراجعا كبيرا للنشاط السياسي والحزبي بعد أن وضعت السلطة يدها على الحياة السياسية والإعلامية.
وأفرز وصول تبون إلى سدة الحكم في الجزائر بدعم من قيادة الجيش توازنات جديدة ومتسارعة في هرم المؤسسة الفاعلة في القرار السياسي، حيث عرف الجناح الذي دعم ترشح عزالدين ميهوبي حملة تطهير واسعة بداية من مدير الأمن الداخلي الجنرال واسيني بوعزة وصولا إلى رئيس الوزراء حينها نورالدين بدوي.
ولم يستبعد متابعون للشأن المحلي أن يتم إلحاق ميهوبي، المحسوب على منظومة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، بأي مسوغ جزائي، على اعتبار أن الرجل شغل عدة مناصب رسمية منها وزير الثقافة والإعلام، وتحدثت بعض التقارير عن استدعاء القضاء للرجل من أجل الاستماع له في قضايا ذات صلة، لكن الأمر لم يرشح عنه أي شيء والرجل مازال يعيش حياته بشكل عادي.
وذكر أمين عام حزب التجمع الوطني الديمقراطي سابقا في رسالته "بعد مسيرةٍ مهنية ثريّة ومنتجة، في المجالين الثقافي والإعلامي والممارسة السياسية، تبوأت خلالها العديدَ من المواقع والمسؤوليات في الإدارة ومؤسسات الدولة، وقدمت ما استشعرت أنه جهد صادق واجتهاد مطلوب في أداء المهام المنوطةِ بي، وساهمت في الاستحقاقات التي عرفتها البلاد في كلّ الفترات من منطلقِ المواطنة والوطنية.. بعد هذه التجربة التي أعتز فيها بخدمة وطني، أجدد مرة أخرى للرأي العام اعتزالي العملِ السياسي والحزبي، وتفرغي التام للكتابة وتكريس جهدي للعمل الأدبي والفكري الذي بدأت به مسيرتي قبل أربعين عاما، مساهما في الفعل الثقافي الذي يشكل ركيزة هامة في بناء كيان الدولة وتعزيز تنوعها وهويتها وإشعاعها على العالم".
وتابع "سأبقى، كما كنت دائما، داعما لمؤسسات الدولة وهيئاتها الرسمية، وسندا لجهودها في التطور والتجديد، والحفاظ على المكاسبِ التي حققها المجتمع الجزائري في كل المجالات، والارتقاء بروح الحوار والمبادرة والإبداع، انطلاقًا من قيم ثورة نوفمبر العظيمة".
ولئن جاء اعتزال الأمين العام السابق لثاني أكبر حزب سياسي موال للسلطة (التجمع الوطني الديمقراطي) خلال حقبة الرئيس الراحل بوتفليقة، والذي خلف رئيس الوزراء المسجون أحمد أويحيى، في ظروف هادئة نسبيّا فإن إعلان الناشط السياسي المعارض رشيد نكاز، في رسالة وجهها من سجنه بالعاصمة إلى الرئيس تبون، عن اعتزاله العمل السياسي يحمل العديد من الدلالات على بداية جفاف المشهد السياسي في البلاد.
وذكر رشيد نكاز، في منشور بث على صفحته الرسمية في فيسبوك، "بعد الإلغاء المفاجئ لعفو مدته 18 شهرا، إليكم الرسالة المفتوحة من المواطن المعزول رشيد نكاز إلى السيد الرئيس تبون (لقد تركت السياسة)".
◙ من بين أسباب اعتزال الفاعلين السياسيين في الجزائر والابتعاد عن الأضواء استشعارهم عدم القدرة على تحقيق أي اختراق
وأضاف "في خطواته المستوحاة من الأمير عبدالقادر في نهاية ملحمته، كتب رشيد نكاز إلى السيد الرئيس عبدالمجيد تبون في العاشر من ديسمبر 2022 ليعلن له رسميا أنه ترك السياسة نهائيا في الجزائر، بقوة الظروف، وهو يرغب الآن في أن يكرس نفسه لحل مشاكله الصحية (البروستاتا، والتنفس، والسمع)، وللكتابة ولأسرته التي ضحى بها وهجرها في الولايات المتحدة منذ أزيد من عشر سنوات، والتي لم يرها منذ ثلاث سنوات، لأنه أراد المساهمة في بناء دولة ديمقراطية في بلد والديه الراحلين".
والتحق الناشط السياسي المعارض بالعمل السياسي والحزبي منذ العام 2013، حيث سعى إلى الترشح للانتخابات الرئاسية مرتين في 2014 و2019، إلا أنه لم يصل إلى مرحلة خوض السباق، كما أسس حزب "حركة الشباب والتغيير"، لكنه لم يرخص له.
وكان أحد أبرز الفاعلين في الحراك الشعبي الذي تفجر في العام 2019، وتعرض نكاز للعديد من المضايقات والملاحقات الأمنية والقضائية، حيث قضى فترة في السجن عام 2020، قبل أن يستفيد من عفو رئاسي، وأعيد سجنه عام 2022 في ظروف صعبة حسب ما يتم تداوله من طرف بعض الدوائر الحقوقية.
ويرى متابعون أن من بين الأسباب التي تدفع الكثير من الفاعلين السياسيين والمدنيين في الجزائر إلى الاعتزال والابتعاد عن دائرة الأضواء استشعارهم عدم القدرة على تحقيق أي اختراق، مع نجاح السلطة القائمة في بسط نفوذها، عبر خطوات لشراء السلم الاجتماعي، وأيضا عبر استخدام سلاح القضاء للتضييق على خصومها.