تمرد القصيدة

يتحدثون في الصحافة السيارة عن موت الشعر، وعن أشكال أكثر إغراء من الشعر ويتجاهلون المنجز الهائل الذي تحقق للشعرية العربية في القرن الماضي، وصولا إلى ذرى جمالية باتت تاريخا عربيا للحداثة، ومنطقة جاذبة لمخيلات وأشواق المبدعين الجدد، وقد أغنى الشعر كل أشكال الإبداع الأخرى بما أدخله عليه تطوره الذي نقله من التقليد إلى التجديد، ومن الجمود إلى الحركة في ظل ثورة شعرية عربية نابعة من صلب التوق والتغيير والنزوع إلى الجديد.
وعليه فإن الحقيقة الساطعة أن حداثة القصيدة العربية لم تكن تعبيرا عن خيارات خاصة بروادها، وإلا لما استطاعت أن تفرض حضورها على المشهد الشعري العربي. كذلك لم تكن تعبيرا عن تأثيرات خارجية على بعض روادها وحسب. ثمة عوامل كثيرة تداخلت في صنع هذه اللحظة الفارقة، في تاريخ الشعرية العربية. والسؤال الأهم الذي يمكن أن يشكل مدخلا للإجابة هو لماذا انفرد الشعر من بين الأجناس الأدبية الأخرى بهذا الدور الريادي، في ثقافة تقليدية الطابع ومجتمعات محافظة؟
إن دلالة هذا الدور الذي لعبته قصيدة الحداثة ترتبط بجوهر الشعر المتمرد دوما على ذاته، قبل أي مؤثر آخر. استجابة الشعر لهذه المؤثرات هي دليل على ما يمتلكه من روح متمردة، وبالغة الحساسية لاستكناه عمق اللحظة التاريخية بدلالاتها المختلفة. تاريخ الشعر في العالم ككل يعبر عن هذه الدينامية الخاصة، التي ينفرد بها عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى. منذ ظهور الرومانسية ومازال الشعر يواصل انقلابه على ذاته، متجاوزا ما كان قد استقر من وعي جمالي واستسلام لسلطة الذائقة المكرسة.
قصيدة الحداثة العربية كانت هي الأخرى علامة على الروح الجديدة، التي كانت تتخلق في الحياة والثقافة العربية. ارتباط أهم شعرائها بمشاريع التغيير الفكري والأيديولوجي السائدة آنذاك كان تعبيرا عن هذه العلاقة، التي جعلت التبشير بالآتي أهم علاماتها، التي سرعان ما اختفت بعد انكشاف الوهم الأيديولوجي.
قصيدة النثر التي انتزعت المكانة الخاصة لقصيدة التفعيلة، في مرحلة لاحقة كانت استمرارا لتحولات الكتابة الشعرية الجديدة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه الفوضى الكبيرة، وغياب المعايير الفنية والجمالية هل وصلت هذه القصيدة إلى ما وصلت إليه قصيدة التفعيلة وقبلها قصيدة العمود من استنفاد لطاقاتها الشعرية وقدرتها على الإبداع، وبالتالي لا بد من أن تستيقظ روح الشعر المتمردة، ونكون أمام اختراق جديد على مستوى الوعي الجمالي والفكري للقصيدة، أم أن قصيدة النثر ستكون هي سقف الكتابة الشعرية؟
الحديث عن قصيدة النثر هو حديث عن اتجاهات وأساليب متعددة في الكتابة الشعرية، فهل يكون التحول في هذه التجربة داخليا بحيث تواصل هذه القصيدة تعميق تحولاتها من داخل هذا الاتجاه أم ذاك، أم أن ثمة اختراقا آخر سيفضي إلى كتابة شعرية مغايرة؟