تكويت الوظائف.. أسئلة ومواجع وضرر

"التكويت" حق مشروع لمليون ونصف مليون كويتي فالبلاد بلادهم وهم أولى بخدمتها وأداء وظائفها ولكنها عندما تحتاج إلى مليوني وظيفة أخرى فالمسألة ليست مسألة "مواقف وطنية" إنها مسألة عمل.
الخميس 2022/09/08
الكويتيون أولى

ما لم يكن الهدف دعائيا وسياسيا، بالتزامن مع تشكيل حكومة جديدة، فإن البدء بإجراءات “تكويت” الوظائف يثير أسئلة ويُقلّب مواجع ويلحق ضررا أكثر مما يحقق فوائد.

المسؤولون الكويتيون يتحدثون منذ عدة سنوات عن “تكويت” الوظائف، أي إتاحتها للمواطنين. ولكن الحقيقة هي أن الوظائف “متكوتتة” إلى حد معقول. إلا إذا تبع الأمرَ سؤالٌ آخر هو: مَنْ هم المواطنون أصلا؟

توطين الوظائف حق مشروع لكل دولة. إنه حق مشروع لكل مواطن. المشكلة تنشأ عندما لا تعترف الدولة بمواطنية المواطن. ما يجعل المسألة أبعد من مسألة توفير وظائف. إنها مسألة علاقة مأزومة بين المواطن ودولته.

“البدون” الذين لم تجرؤ الدولة الكويتية على الاعتراف بمواطنيتهم، لا يشكلون تحديا اجتماعيا وسياسيا للدولة فقط. إنهم تحد أخلاقي أيضا. أيّ كويتي يذهب ليعيش في أيّ بلد في العالم لبضع سنوات، يمكنه أن يعود بهوية وجواز سفر ذلك البلد. بل يعود ليقيم في الكويت نفسها، محميا من دولته الجديدة، في دولته الأم التي لم تحمه.

ويصل عدد “البدون” إلى 200 ألف إنسان يستطيعون إثبات أن أسرهم تقيم في الكويت منذ ما لا يقل عن نصف قرن. بينما خمس سنوات تكفي للحصول على جنسية أيّ بلد آخر في “العالم المتحضر”.

العمالة الوافدة، هي في النهاية، عمالة عمل، وليست عطاء. إذا توفرت لديك عمالة محلية لتغطيتها، فلن يجادلك في حق توطينها لا مصري ولا باكستاني

السلطات الكويتية تعترف فقط بـ85 ألفا من هذا المجموع على أنهم “مقيمون”، وليس على أنهم “مواطنون”. أو بعبارة أخرى على أنهم “مواطنون من الدرجة الثانية” يمتلكون الحق بالحصول على أوراق هوية تشير إليهم على أنهم “مقيمون” غير محددي الجنسية. أما الباقون، فلا يملكون الحق بالحصول على خدمات الصحة ولا التعليم، ولا حتى الحق بفتح حساب في البنوك، كما لا يملكون، بعد وقف حساباتهم المصرفية، الحق في استرداد رواتبهم ومدخراتهم أصلا.

ما من دولة في العالم تسطو على مدخرات زائر ولا مقيم ولا مواطن، ولا حتى عابر سبيل. هذا أكثر من كثير وفقا لأبسط المعايير الإدارية، دع عنك الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية.

هذا الوجع لم ينقطع. ولا توجد مؤشرات إلى أنه سوف ينقطع في المدى المنظور. الكويت تضغط على نفسها به من دون مبرّر معقول. وهو يعود في أصله إلى نوع فريد من النظرة العنصرية بين أبناء الوطن الواحد، تقود بدورها إلى ثقافة عنصرية تشمل الأجانب. ليس كلهم طبعا. فالأجانب الذين يحملون جنسيات دول “راقية” لا تشملهم نظرة الاستصغار التي يُنظر بها إلى شعوب الأمم الأخرى. في الواقع، فإن تصور الاستصغار ينقلب، حيال مواطني “الدول الراقية” لتقع على الكويتي نفسه. وأمرهم، في النهاية، كأمر الواقف على جبل، يرى الناس صغارا، ويرونه صغيرا.

بعض التغيرات الإيجابية حدثت في السنوات القليلة الماضية، عندما تطوّع الآلاف من مواطني “البدون” لتقديم خدمات الرعاية الصحية خلال موجة وباء كورونا، تبرعا وعلى سبيل التضامن الاجتماعي. تلك الخدمات التي ظلوا هم أنفسهم محرومين منها. كما أن هناك نوابا وشخصيات مرموقة اتخذت موقفا شجاعا لوقف هذه المأساة، بالدعوة إلى إنهاء مشكلة “البدون” بالاعتراف التام بمواطنيتهم وحقوقهم المتساوية.

والحال، فإن أكبر ضحايا نيّات “التكويت” الراهنة هم العمالة المصرية.

مصر لا تعرف على وجه الدقة عدد مواطنيها الذين يعملون في الكويت. هذه مشكلة من نوع آخر. نائب رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر يقول إن عددهم يبلغ 1.6 مليون مواطن، ووفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن عددهم يبلغ 771 ألفا، بينما تقول وزارة القوى العاملة المصرية إن عددهم يبلغ نحو 456 ألفا. ولكن أيّا كان الرقم، فإن هؤلاء يؤدون وظائف، إما لا يريد الكويتيون أداءها، لأسباب تتعلق بثقافة متعالية حيال العمل نفسه، أو أنه لا يوجد عدد يكفي من المواطنين و”المقيمين” معا لشغلها أصلا. ما يجعل الحديث عن “تكويت” الوظائف مبالغا فيه من الأساس. والمصريون، وإن كانوا هم جالية العمالة الأكبر، فإنهم ليسوا كل جالية العمالة الأجنبية. إذ يبلغ عدد الوافدين الأجانب نحو 3 ملايين نسمة، وسط 1.3 مليون كويتي.

ووفقا للأرقام الرسمية “فإن عدد الوافدين الذين يعملون في القطاع الحكومي، يصل إلى ما يقارب الثمانية آلاف وافد، 44 في المئة منهم في وزارة الصحة، و40 في المئة في وزارة التربية، و16 في المئة في بقية القطاعات، مقابل 256 ألفا و386 موظفا من الكويتيين”.(نقلا عن “بي. بي.سي”).

هذه الأرقام ربما تتحدث عن مستويات وظيفية أعلى. ولكن، بحسب حسن شحاتة، وزير القوى العاملة المصري فإن “عدد العاملين المصريين بالقطاع الحكومي في دولة الكويت لا يتخطى 31 ألفا، وأن العاملين منهم بوزارة الدولة لشؤون البلدية وإداراتها لا يتعدى الألف”.

ما من دولة في العالم تسطو على مدخرات زائر ولا مقيم ولا مواطن، ولا حتى عابر سبيل. هذا أكثر من كثير وفقا لأبسط المعايير الإدارية، دع عنك الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية

والإشارة إلى وزارة الدولة لشؤون البلدية، تتعلق حصرا بإعلان الوزيرة رنا الفارس خطة للتخلص من العمالة الوافدة تمتد على ثلاثة مراحل، يتم خلالها التخلص من 33 في المئة من العمالة الوافدة كل ستة أشهر. أي أننا في غضون سنة ونصف لن نرى مصريا أو أجنبيا في الشارع. وهذا شيء غير قابل للتصديق.

والفارس تقول إنه “استنادا إلى قرار مجلس الخدمة المدنية رقم 11 لسنة 2017، بشأن قواعد وإجراءات ‘تكويت’ الوظائف الحكومية، فإن قطاع بلدية الكويت، هو القطاع المستهدف في المرحلة الأولى”.

الأرقام تكفي لكشف الجانب الدعائي من القصة. فإذا كانت تتعلق بالقطاع الحكومي، فإنها قصة ثمانية آلاف وظيفة، مما لا يستدعي ضجيجا. أما إذا كانت تتعلق بالوظائف المؤقتة في الأعمال الخدمية (البناء، التنظيف، النقل، المناولة.. الخ)، فحتى لو تكرست كلها لـ85 ألف “مقيم”، فإنهم لن يسدوا الحاجة. وأما إذا كانت تتعلق باختلال التوازن الديمغرافي مع الثلاثة ملايين وافد، فالكويت في حاجة إلى ثلاثة ملايين مواطن إضافي لإصلاح الخلل، بينما هي لا تعترف بـ200 ألف يعيشون فيها، ولا تتيح لهم الاستفادة حتى من مدخراتهم. أي أنهم يُعاملون أسوأ بكثير مما يعامل أيّ أجنبي، سواء كانوا من حملة “الجنسيات الراقية” أو من حملة الجنسيات “المغلوبة على أمرها”.

العمالة الوافدة، هي في النهاية، عمالة عمل، وليست عطاء. إذا توفرت لديك عمالة محلية لتغطيتها، فلن يجادلك في حق توطينها لا مصري ولا باكستاني.

الحاجة إلى عمالة وافدة تتطلّبها منظومة الخدمات، من جهة، ومنظومة المشاريع من جهة أخرى. إنها ليست مسألة موقف عنصري ولا تصورات ثقافية، ولا انطباعات. إنها مسألة عمل مجرد. إذا لم تجد سبيلا لتقوم به بنفسك، دع غيرك يقوم به نيابة عنك. نقطة رأس السطر. وعندما تنتهي حاجتك إليه، تقول له “شكرا، مع السلامة”.

شيء رائع أن يكون هناك في الكويت 3 ملايين وافد، يعملون، ويساهمون في أعمار البلاد ونهضتها وتنمية اقتصادها، وحل مشكلاتها البيئية، ويوفرون لها الخبرات والأيدي العاملة، من مختلف مستويات الكفاءة.

إنهم حل تنموي، وليسوا مشكلة. وهم حل متبادل أيضا.

تحويلات المصريين العاملين في الكويت بلغت خلال العام المالي 2020- 2021، 4.4 مليار دولار بعد السعودية (11.2 مليار دولار)، ثم الإمارات (3.4 مليار دولار)، ثم قطر (1.5 مليار دولار)، وذلك من إجمالي يبلغ نحو 31 مليار دولار تدخل مصر من مواطنيها في الخارج. إنهم بالنسبة إلى بلدهم حل تنموي أيضا.

“التكويت” حقّ مشروع لمليون ونصف مليون كويتي. البلاد بلادهم. وهم أولى بخدمتها وأداء وظائفها. ولكنها عندما تحتاج إلى مليوني وظيفة أخرى، فالمسألة ليست مسألة “مواقف وطنية”. إنها مسألة عمل، لا تملك حيالها إلا ثلاثة خيارات فقط: إمّا أن تؤديه، وإمّا أن تستعين بمن يؤديه، أو أن تنتظر الملائكة لكي تنفذه لك، في يوم آخر.

ومن بعد الأرقام، فإن الدعاية عندما لا تستقيم مع الحقائق تصبح ضررا يثير أسئلة ويقلب مواجع.

9