تكالة يُفجر أزمة ليبية جديدة بتعيين أحادي لرئيس ديوان المحاسبة

المجلس الرئاسي يلوّح باتخاذ خطوات لمعالجة القصور في حال استمرار حالة الجمود والتأخر في تنفيذ الاستحقاقات الوطنية، لافتا إلى أنه لن يقف موقف المتفرج.
الأربعاء 2025/04/16
صراع المناصب يعكس أزمة عميقة في ظل الانقسام السياسي والتدخلات الدولية

طرابلس - برز فصل جديد من الصراع السياسي في ليبيا في خضم أزمات اقتصادية متلاحقة، كان آخرها تخفيض قيمة الدينار الليبي، مع دعوة المجلس الرئاسي الثلاثاء مجلسي النواب والأعلى للدولة إلى تجاوز الخلافات والاتفاق على تسمية شاغلي المناصب السيادية الحساسة، محذرا من الانزلاق نحو مزيد من الفوضى.

ويأتي هذا التحذير عقب قرار مثير للجدل من محمد تكالة، الذي يصر على رئاسة المجلس الأعلى للدولة رغم خسارته الانتخابات الأخيرة ورفضه الاعتراف بالنتائج مطالبا بإعادتها، بتكليف أحمد عون الفرجاني رئيسا مؤقتا لديوان المحاسبة، بدلاً من خالد شكشك لحين التوافق مع مجلس النواب على المنصب.

وأثار قرار تكالة غضب خالد المشري الرئيس الفعلي للمجلس الأعلى للدولة، الذي وصفه بـ"الزائف"، مؤكدا "عدم صحة جميع القرارات والإجراءات التي يتخذها عضو المجلس محمد تكالة، منتحل صفة رئيس المجلس، بموجب أحكام القضاء النافذة".

وحذّر المشري "من خطورة التعدي على أحكام الإعلان الدستوري، والفوضى الشاملة التي تحدث بتجاوز نصوصه، أو باتخاذ الإجراءات الأحادية التي من شأنها زيادة الانقسام بالمؤسسات الحساسة والسيادية، وتعميق الأزمة في البلاد".

كما حذر "من مغبة الاستمرار في هذا النهج غير السليم وغير المنضبط المخالف للنصوص الدستورية مخالفة جسيمة"، مؤكدًا أن "قرارات تكليف شاغلي المناصب السيادية ينبغي أن تُتخذ عبر التوافق بين مجلسي النواب والمجلس الأعلى للدولة وفقًا للمادة الدستورية رقم 15 من الاتفاق السياسي".

وقال المشري إن "الإجراء المشار إليه، بالإضافة إلى صدوره عن مكتب رئاسة، باطل بأحكام القضاء، فهو مخالف للقرارات الصادرة عن المجلس باعتماد اتفاق بوزنيقة بشأن اختيار شاغلي المناصب السيادية، والآلية المتبعة للاختيار"، في إشارة إلى مخرجات الاجتماعات السابقة بين أعضاء مجلسي النواب والدولة بالمغرب.

وجدد المشري "اعترافه بخالد شكشك رئيسا شرعيا ووحيدا لديوان المحاسبة طبقًا لنصوص الإعلان الدستوري"، مطالبا "كل مؤسسات الدولة الرسمية بضرورة التقيد بذلك إلى حين التوافق بين المجلسين بشأن تكليف رئيس جديد للديوان بشكل دستوري سليم".

من جهته، أيّد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح موقف المشري ودعا في بيان، إلى "عدم الاعتداد بقرار تكالة بشأن تكليفه رئيسا لديوان المحاسبة، لكون التكليف مخالفا للقانون والاتفاق السياسي، إذ (يجب أن) يصدر عن مجلس النواب وليس عن المجلس الاستشاري (الأعلى للدولة)".

ودخل المجلس الأعلى على خط الأزمة ببيان قال فيه إنه "يتابع بقلق بالغ ما تشهده الساحة السياسية من تصعيد غير مبرر من خلال خطوات أحادية الجانب تقابلها أخرى من بعض المؤسسات، ما من شأنه أن ينسف حالة الاستقرار النسبي التي تعيشها البلاد".

وجدد الإعراب عن حرصه على "استكمال تنفيذ خارطة الطريق للحل السياسي الشامل، ولاسيما المواد المتعلقة بتوحيد المؤسسات السيادية في مهل زمنية محددة".

ودعا مجلسي النواب والأعلى إلى "سرعة تجاوز خلافاتهما، والسمو فوق المصالح الضيقة والآنية ".

وحثهما على "العمل على التوافق العاجل حول تسمية شاغلي المناصب السيادية، وفق ما نصّ عليه الاتفاق السياسي (بين أطراف النزاع عام 2015) وملاحقه، وبما يتماشى مع معايير الكفاءة والحياد والشفافية".

وتابع وذلك "تفاديا لانزلاق البلاد في أتون أزمة جديدة تُضاف إلى ما يعانيه المواطن من أزمات متراكمة".

وشدد المجلس الرئاسي على "استمرار حالة الجمود والتأخر في تنفيذ الاستحقاقات الوطنية لن يُقابل بموقف المتفرج، بل سيضطر المجلس (...) إلى اتخاذ ما يلزم من خطوات لمعالجة هذا القصور".

من جهته، انتقد عضو مجلس الدولة أبو لقاسم قزيط قرار تكالة، مؤكداً أن تكليف رئيس لديوان المحاسبة يتطلب توافقاً وتصويتاً مشتركاً من المجلسين، وهو ما لم يحدث، معتبراً القرار "بعثرة جديدة لأوراق مبعثرة أصلاً".

ويمثل الفصل الأخير من الصراع حول المناصب السيادية حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الخلافات التي تعصف بالمؤسسات الليبية الرئيسية. فبالإضافة إلى التنازع على رئاسة المجلس الأعلى للدولة وديوان المحاسبة بين شخصيات بارزة كالمشري وتكالة، وشكشك والسعيطي، تشير التقارير إلى وجود محاولات سابقة ومتكررة لتغيير قيادات هذه المؤسسات الحيوية، مما يعكس عمق الأزمة المؤسساتية.

ويكتسب ديوان المحاسبة أهمية خاصة في المشهد الليبي، وهو ما يؤكده اهتمام المجتمع الدولي بدوره. فقد شددت سفارات كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، في بيان مشترك في مارس الماضي على أن هذا الديوان يمثل مؤسسة محورية لضمان إدارة رشيدة وشفافة للمالية العامة، والمساهمة الفعالة في مكافحة الفساد المستشري وحماية موارد البلاد من النهب.

وتنذر الخلافات المتجددة بشأن المناصب السيادية بتعميق الأزمة السياسية المستمرة في ليبيا. هذه الصراعات الداخلية تضع عراقيل إضافية أمام أي جهود حقيقية لتحقيق المصالحة الوطنية وتوحيد المؤسسات المنقسمة، مما يزيد من معاناة الشعب الليبي الذي يتوق إلى الاستقرار والازدهار بعد سنوات من الاضطرابات.

وتعاني ليبيا من انقسام مؤسساتي حاد ومستمر منذ سنوات طويلة، حيث تتصارع حكومتان على الشرعية (في طرابلس وبنغازي)، وتعمل مؤسسات مالية بشكل منفصل، بينما لا يزال الجيش منقسماً. هذا الواقع المرير يمثل عائقا رئيسياً أمام تحقيق أي تقدم ملموس نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود.

ويمثل الصراع المحتدم على المناصب السيادية، وعلى رأسها رئاسة ديوان المحاسبة والمجلس الأعلى للدولة، تجسيداً واضحاً لهذا الانقسام المؤسساتي العميق، حيث يسعى كل طرف إلى بسط نفوذه وهيمنته على المؤسسات الهامة في الدولة، مما يؤدي حتما إلى مزيد من الشلل المؤسسي والفوضى السياسية.

ويُنظر إلى قرار تكالة الأحادي على أنه محاولة لفرض أمر واقع من طرف لا يتمتع بإجماع وطني، وهو ما يزيد من حدة الانقسام القائم بدلاً من التوصل إلى حلول توافقية.

وتتسم الأزمة الليبية بتعقيد إضافي ناتج عن التدخلات الإقليمية والدولية المتعددة. فدول مختلفة تدعم أطرافا متناحرة على الساحة الليبية، مما يزيد من تشابك المشهد السياسي ويعيق بشدة أي جهود للتوصل إلى حل ليبي خالص ينبع من إرادة وطنية خالصة.

ويأتي الصراع على المناصب السيادية أيضا في سياق محاولة كل طرف من الأطراف الليبية المتحالفة مع قوى خارجية لتعزيز موقعه ونفوذه قبل أي تسوية سياسية مستقبلية محتملة، إذ أن الدعم الذي تقدمه بعض القوى الإقليمية لأطراف ليبية معينة قد يشجع على اتخاذ خطوات أحادية الجانب، كما هو الحال في قرار تكالة، مما يقوض بشكل خطير جهود التوافق التي يدعو إليها المجلس الرئاسي والمجتمع الدولي.

وعلى الرغم من المساعي المتكررة التي يبذلها المجتمع الدولي والأمم المتحدة، لا تزال العملية السياسية في ليبيا تراوح مكانها دون تحقيق اختراقات حقيقية. فالاتفاق النهائي حول الدستور لا يزال بعيد المنال، كما أن إجراء انتخابات وطنية موحدة يواجه عقبات جمة.

و يخلق هذا الجمود السياسي بيئة خصبة لازدهار الصراعات على السلطة والنفوذ. ففي غياب أفق واضح لحل سياسي شامل، يصبح التنافس على المناصب السيادية أكثر شراسة، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز موقعه في أي ترتيبات مستقبلية محتملة. ويُنظر إلى قرار تكالة على أنه محاولة لاستغلال هذا الجمود السياسي لفرض سيطرته على مؤسسة حيوية كديوان المحاسبة.

ويعاني الشعب الليبي من تدهور مستمر في الأوضاع الاقتصادية، يتجلى في ارتفاع الأسعار، ونقص السيولة الحاد، والتأثير السلبي للصراعات على إنتاج وتصدير النفط، الذي يمثل المصدر الرئيسي لدخل البلاد. وتزيد الأزمة الأخيرة المتمثلة في تخفيض قيمة الدينار الليبي من الأعباء الاقتصادية على المواطنين.

وفي ظل هذه الظروف الصعبة، تزداد أهمية المؤسسات السيادية مثل ديوان المحاسبة، المسؤول عن الرقابة المالية ومكافحة الفساد. والصراع على قيادة هذه المؤسسة الحيوية يزيد من المخاوف بشأن إدارة المال العام وشفافيته، ويمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة استياء المواطنين، كما يهدد قرار تكالة الأحادي بتقويض ثقة الليبيين والمجتمع الدولي في قدرة المؤسسات الليبية على العمل بشكل موحد وفعال.