تكالة في واشنطن.. وصالح يجرم التطبيع

في الوقت الذي كان فيه مجلس النواب الليبي يصوّت بالإجماع لفائدة إضافة أحكام جديدة لقانون “تجريم التعامل مع إسرائيل” الصادر عام 1957، كانت هناك تحركات تدور في الولايات المتحدة، يقودها رئيس مجلس الدولة محمد تكالة، في سياق العمل على إيجاد حل بديل لمشروع القوانين الانتخابية في نسختها الصادرة بالجريدة الرسمية في أكتوبر الماضي بعد أن صدق عليها البرلمان.
ذهب تكالة إلى واشنطن حيث كان في انتظاره السفير المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى طرابلس ريتشارد نورلاند، وهو ما يشير إلى وجود تنسيق حول الزيارة وحول أهدافها المتعلقة بالخصوص بمبادرة من رئيس البعثة الأممية عبدالله باتيلي الذي يسعى هذه المرة للنزول إلى الساحة مدعوما بضغوط أميركية على صانعي القرار في طرابلس وبنغازي.
كان المكتب الإعلامي لمجلس الدولة أعلن قبل أيام أن باتيلي قدم خلال اتصال هاتفي مع تكالة مبادرة لحل الأزمة السياسية تعتزم بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إطلاقها في الفترة المقبلة، دون تقديم أي تفاصيل، ثم كان اللقاء بينه (باتيلي) وبين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة حيث اتفقا على ضرورة التوصل إلى حل ليبي – ليبي للأزمة المستعصية، فيما أكدت رئاسة مجلس النواب أنها لم تتلقّ أي مقترح من البعثة أو رئيسها.
بالنسبة إلى الوضع في ليبيا، فإن الانتصار كالهزيمة، معناه بقاء التوازنات على ما هي عليه. لاسيما أن الفوضى أصبحت شكلا من أشكال النظام التي قد تكون أفضل من نظام يؤدي إلى الفوضى
القيادي الإخواني الليبي – الأميركي وعضو مجلس الدولة الاستشاري إبراهيم صهد، كان أول من أعلن عن زيارة محمد تكالة إلى الولايات المتحدة، والتي قال إنها تستهدف لقاء عدد من أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ ومع عدد من المؤسسات البحثية المهتمة بقضايا الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا، وفق تعبيره. بالتأكيد أن تكالة لم يفاتح المسؤولين الأميركيين بموقفه الغاضب من الهجوم الإسرائيلي على غزة، ولم يهددهم بالعمل على قطع النفط والغاز عن الدول الداعمة لتل أبيب كما جاء في بيان سابق لمجلس الدولة.
لم يدشن تكالة سلسلة لقاءاته في واشنطن إلا بعد تلقيه النص الكامل لمبادرة باتيلي ومناقشتها مع الدبيبة والأتراك، وطبعا مع قيادة حزب العدالة والبناء الإخواني الذي ينتمي إليه سياسيا وعقائديا، وبعد النظر في إمكانية تطبيقها على أرض الواقع. لذلك كانت رسالته التي توجه بها إلى رئيس المجلس عقيلة صالح خلال اجتماعهما بالقاهرة في الثامن من نوفمبر، شديدة الوضوح، بمعنى أن لا فائدة من جولة جديدة للمباحثات بينهما، إلا بعد الاتفاق المبدئي على المقترح الأممي الجديد، وقبول البرلمان بفكرة التراجع عن القانونين الخاصين بالاستحقاقين الرئاسي والبرلماني الصادرين عن لجنة 6+6 في السادس من يونيو الماضي، واعتبار التصديق عليهما ونشرهما بالجريدة الرسمية كأن شيئا لم يكن.
في 13 نوفمبر عقد تكالة اجتماعا مع نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشمال الأفريقي جوش هارس، بمشاركة نورلاند، في مقر الخارجية الأميركية. حيث جرى الحوار حول مبادرة باتيلي، بحضور عدد من أعضاء مجلس الدولة المحسوبين بقوة على فريق الدبيبة والمناهضين لمجلس النواب. أهم مضامين اللقاء تمحورت حول إعادة النظر في القوانين الانتخابية، وقطع طريق الترشح للسباق الرئاسي أمام الشخصيات الجدلية (حفتر وسيف الإسلام)، وإبقاء الوضع الحكومي على ما هو عليه إلى حين ترتيب الملفات الداخلية والإقليمية.
في تلك الأثناء، كان الدبيبة يجدد التأكيد أمام باتيلي على رؤية الحكومة بإجراء انتخابات نزيهة في ليبيا وفق قوانين عادلة، مؤكدا حرص حكومة الوحدة الوطنية على إجراء الانتخابات في أقرب الآجال، وتوفير الدعم اللازم لتنفيذها من أجل استقرار البلاد، مع الكثير من عبارات الإشادة والتثمين لجهود البعثة الأممية.
فصل الخطاب عند الدبيبة هو أن لا مجال لتغيير حكومي ولا لتشكيل حكومة مصغرة تبسط نفوذها على مختلف مناطق البلاد وتدير ملف تنظيم الانتخابات والإشراف عليها كما يطالب بذلك مجلس النواب أو تشترط لجنة 6+6 في قانوني الانتخابات. وقد وصلت رسالته بذلك إلى العواصم الغربية وفي مقدمتها واشنطن. قبل أسابيع كان هناك شبه اتفاق بين تلك العواصم على ضرورة تشكيل حكومة جديدة، لكن معطيات محلية وإقليمية أعادت تشكيل الصورة بما يستجيب لتطلعات الدبيبة المتمسك بالحكم إلى أجل غير مسمى، والذي يبدو أنه يمتلك عددا من الأوراق المهمة التي يلاعب بها الكثير من الفرقاء في الداخل والخارج.
قوة الدبيبة تتمثل بالخصوص في أن كل المفاتيح بين يديه؛ مفاتيح القرارات السياسية والمالية والاقتصادية، مع دهاء في التعامل مع المستجدات والتطورات، حيث يقدم نفسه على أنه راعي مصالح واشنطن وحلفائها في ليبيا
كان تكالة قد جاء إلى رئاسة مجلس الدولة باتفاق مباشر بين الدبيبة وقيادة حزب العدالة والبناء على إقصاء الرئيس السابق خالد المشري المعروف بموقفه المناهض لاستمرار حكومة الوحدة في السلطة وتقاربه مع عقيلة صالح في التوجه نحو تشكيل حكومة جديدة تكون مصغرة وجامعة. أما باتيلي فمن الواضح أنه بات يجد راحته أكثر في مكتب رئيس مجلس الوزراء بطريق السكة.
يقول البعض إن قوة الدبيبة تتمثل بالخصوص في أن كل المفاتيح بين يديه؛ مفاتيح القرارات السياسية والمالية والاقتصادية، مع دهاء في التعامل مع المستجدات والتطورات، حيث يقدم نفسه على أنه راعي مصالح واشنطن وحلفائها في ليبيا أمام مزاعم تقدم روسي نحو تأسيس قاعدة في المنطقة الشرقية. وهو لديه إمكانيات واسعة لدس الأخبار والتقارير والمواقف عبر شبكات نشطة في العواصم الغربية.
عندما اهتزت ليبيا في أواخر أغسطس الماضي لخبر لقاء نجلاء المنقوش وزيرة خارجية حكومة الوحدة مع نظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين في إيطاليا، تم اتهام الدبيبة بالعمل على التطبيع المباشر مع تل أبيب، وأشارت مصادر عدة آنذاك إلى أنه سبق له الاجتماع مع مسؤولين إسرائيليين لوضع ترتيبات لعلاقات مستقبلية مقابل توفير الدعم لحكومته لدى الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن. هناك من اعتقد أن حكومة الدبيبة انتهت، ولكن الواقع يشير إلى أنها استفادت من الحملة المناهضة لخطواتها الطبيعية، لاسيما بعد أن غطت فاجعة فيضانات العاشر من سبتمبر في درنة والجبل الغربي على الحدث.
اليوم، بينما تكالة الإخواني في واشنطن لملاقاة عدد من مسؤولي الصف الثالث، أعلن مجلس النواب عن تصويت أعضائه بالإجماع على قانون لتجريم التطبيع مع إسرائيل في خطوة لها ما عليها.. ولن تصب إلا في مصلحة الدبيبة الذي يعرف جيدا كيف يستفيد من اندفاعات الطرف المقابل. ومصلحة الدبيبة هي الاستمرار في الحكم بما يمثله من امتيازات غير قابلة للحصر ليس فقط لشخصه وفريقه وإنما للجماعة والفئة واللوبيات التي يحكم باسمها ومن خلالها بعد أن كانت وراء فوزه بنتائج جلسات الحوار السياسي في جنيف في فبراير 2021.
بالنسبة إلى الوضع في ليبيا، فإن الانتصار كالهزيمة، معناه بقاء التوازنات على ما هي عليه. لاسيما أن الفوضى أصبحت شكلا من أشكال النظام التي قد تكون أفضل من نظام يؤدي إلى الفوضى. والنتيجة أن هناك قوى تستفيد من كل يوم جديد لتكريس المزيد من نفوذها سواء في غرب البلاد أو شرقها.