تغيّر منظور النقد تجاه ما تكتبه المرأة العربية

تظل غُربة النساء واغترابها في الراهن أو الماضي موضوعا إشكاليا، في ظل الوقائع السياسية والاجتماعية الضاغطة في البُلدان العربية، وقد لا ينجح في سبر أغواره سوى المرأة الكاتبة التي تُدرك عمق الغربة النفسية للنساء والجبهات المتعددة التي تناضل فيها المرأة. “العرب” حاورت الكاتبة المغربية عائشة البصري حول أحدث رواياتها ورؤية المرأة الكاتبة المُغايرة للعالم.
في أحدث أعمالها الروائية “الحياة من دوني”، تكتب الشاعرة والروائية المغربية عائشة البصري عن وقائع اغتصاب المرأة في الحروب، تدور أحداث الرواية في فترة زمنية واسعة تمتد ما بين 1937 و2012. تتحدث البصري عن الدوافع التي قادتها نحو كتابة هذه الرواية، الفائزة بجائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة الدولي للكتاب لعام 2018.
تقول البصري “كنت أُتابع برنامجا وثائقيا عن الطريقة التي تُستقطب بها النساء ويُجندن للذهاب إلى سوريا والعراق للجهاد بأجسادهن تحت اسم جهاد النكاح وكيف تُسبى النساء وتُباع. أثار الفيلم استهجاني وغضبي ودفعني للبحث في المراجع عن أسود نقطة في تاريخ النساء في القرن الماضي فكانت النتيجة (مذبحة نانجينغ) وهي مدينة في شرق الصين عرفت أبشع مذبحة وعددا مهولا من حالات الاغتصاب والقتل أواخر سنة 1937 في وقت قياسي (20000 حالة اغتصاب خلال ستة أسابيع وفق وثائق صينية)”.
رسالة الكتابة
تلفت عائشة البصري إلى أن موضوع روايتها “الحياة من دوني” يتطرق إلى ما تقترفه الحروب من اغتصاب، وتضيف “هذا الموضوع فرض عليّ خطا سرديا يُركِّز على الصين والفيتنام في زمن الحرب العالمية الثانية وفضاءات بعيدة عن العالم العربي، لكن أحداث الرواية لها ارتباط بالمغرب، تبدأ من المغرب وتنتهي في المغرب. المشترك الثقافي والتاريخي والسياسي والاجتماعي بين المغرب والصين ضعيف، لكن يظل المشترك بين الشعوب هو الألم الإنساني، إضافة إلى أن المغرب يحتضن جالية صينية مهمة ما أعطى مبررا ومجالا أوسع للتخييل”.
ثمة هواجس داخلية تخص الكاتب وأخرى خارجية تخص محيطه الاجتماعي والسياسي تبلورها الحساسية المرتفعة لدى الكاتب
هل يمكن اعتبار كتاباتك الروائية على وجه الخصوص محاولة مستمرة ومشروعا لدفع الظلم عن النساء، لاسيّما وأن الروايات الثلاث موضوعها النساء بتنويعات مختلفة؟ تجيب البصري بأن هيمنة موضوع المرأة على أعمالها الأدبية، بما فيها القصة القصيرة والشعر، واهتمامها بواقع المرأة العربية على الخصوص شيء بديهي، فالكاتبات مطالبات بالكتابة عن واقع المرأة للرصد والإدانة والدفاع عن حقهن في التواجد الثقافي والاجتماعي والسياسي. ففي النهاية نحن نكتب دفاعا عن قيم، وما الكتابة الأدبية إلا رسالة عبر آليات الكتابة والتخييل، رسالة تتغلغل بين السطور، بعيدة كل البعد عن التقريرية المباشرة وهذا من مستلزمات الالتزام في الأدب، هو أدب يحمل رسالة وليست رسالة تسخر الأدب لحملها. مع ذلك لا أستطيع أن أعتبر نفسي كاتبة نسوية، فتربيتي السياسية في وقت مبكر في حزب يساري علمتني أنني أنا والرجل معا ضد الأفكار الظلامية والحروب والتمييز.
بناء الرواية
الكتابة عن أحداث تاريخية بعيدة زمنيا وواقعيا من حيث أنها لا تعكس تاريخ البلد الذي تنتمي إليه الكاتبة ربما هي مسألة تحمل من الصعوبة الكثير. وهنا تُبيّن البصري أن كتابة روايتها “الحياة من دوني” تطلبت مجهودا أكثر لابتعادها عن مُحيط الذات الكاتبة، لكن يبقى التاريخ في “الحياة من دوني” مادة من بين المواد الأولية للكتابة مثله مثل الذاكرة والحلم والطفولة والصورة لكن الأساس في الرواية هو التخييل. صحيح أن الرواية تشير إلى عدة أحداث تاريخية كالحرب العالمية الثانية 1937-1945 والغزو الياباني للصين سنة 1937 والحرب الهندوصينية 1946-1954، لكنها تظل مجرد ظلال أو خيط خفيف ومرهف لأن المقصود من الرواية ليس تثبيث أحداث تاريخية عامة، إنما الحديث عن مشاعر ومواقف شخصية نتجت عن هذه الأحداث لتصبح الرواية حكاية تلك الأنة الخافتة التي تطلقها امرأة مكلومة، حتى أنه من الممكن الاستغناء عن ذكر أسماء الأحداث وأرقام التأريخ ومع ذلك يظل بناء الرواية متماسكا.
وتشير الكاتبة المغربية إلى أن ثمة هواجس داخلية تخص الكاتب وأخرى خارجية تخص محيطه الاجتماعي والسياسي تبلورها الحساسية المرتفعة لدى الكاتب، بالنسبة إليها فالموضوع الذي يشغلها هو الذي يحدد شكل الكتابة ويقود النص نحو شكله النهائي، إن كان شعرا، قصة قصيرة أو رواية، فليست هناك نيّة مُسبقة أو قرار يسبق العمل الإبداعي.
وتلفت إلى أنها خلال اشتغالها على رواية “الحياة من دوني” تحدثت إلى نساء عايشن الحرب، وكذلك سعت لمعرفة وجهات نظر لنساء لم يعرفن الحرب، وهو ما سيكون موضوعا لكتاب جديد لها عبارة عن شهادات وحكايات عن الحرب جمعتها كمادة أولية لكتابة “الحياة من دوني” ارتأت أن توصل هذه الأصوات وهذا البوح المؤلم كما هو على لسان من عايشنه مع إعادة صياغتها أدبيا، كما أنها تشتغل كذلك على مشروع روائي لن يصدر في القريب لأنه يحتاج لوقت أطول.
ذات الكاتبة
ترى البصري أنه مؤخرا تغيّر منظور النقد تجاه ما تكتبه المرأة نسبيا، نظرا إلى التراكم النوعي في إصدارات الكاتبات وما حققنه في السنوات الأخيرة، فلا أحد يجادل في قوة حضور الأصوات النسائية في المحافل الثقافية وفي الجوائز، رغم أنها لا تُفضل هذا التصنيف، فالكتابة النسائية أغنت الساحة الثقافية العربية، والكتابة الإبداعية فعل غير منفصل عن الذات بالنسبة للمرأة والرجل على السواء، لكننا ككاتبات عربيات لدينا وضع اعتباري مُختل مُلزمات بالنضال على جبهتين: جبهة الدفاع عن الذات والدفاع عن الإنسان ككل، لهذا فرؤيتنا لعالم أوسع وأشمل وأهدافنا أكثر نبلا.
هل ثمة مشترك ما بينك وبين بطلات أعمالك الروائية؟ تجيب البصري “هناك دائما رابط بين النص الأدبي وكاتبه مهما حاولنا الابتعاد والتمويه. من الممكن أن نقول إن هذا الرابط يشبه الحبل السري للمولود. هذا الحبل ينتهي دوره بالولادة لكن تظل الجينات التي يرثها النص عن كاتبه بعد النشر. في ‘حفيدات جريتا جاربو’ بذلتُ جهدا مضاعفا كي أبعد شخصيتي عن الشخصيات النسائية الثماني، خصوصا عن شخصية الكاتبة، لكن، الأكيد أن كل شخصية أخذت ملمحا مني”.
جودة النص
حصلت البصري على عدد من الجوائز وفي هذا الصدد تقول “أراهن على جودة النص التي لا تتحقق إلا بالتراكم، الأكيد أن منح جائزة إلى مبدع أو مبدعة يشكل تحفيزا نوعيا ملموسا وبغض النظر عما إذا كانت للجائزة قيمة مادية أو لا، فإن الجائزة تعبر عن نوع من الاعتراف بقيمة ما ينتجه المبدع، إضافة إلى أن الجوائز تتحكم في ذائقة القراء. ومن هنا تأتي أهمية أن تتوفر للجوائز لجان أمينة وذات مصداقية”.
وتتابع “جائزة أفضل رواية عربية للمعرض الدولي للكتاب في الشارقة لها رمزية ثقافية مهمة، لأنها تُقدّم من ثالث أكبر معرض كتاب في العالم وبوابة الانفتاح على الثقافات العالمية. أيضا، سعدت من قبل بفوزي بالجائزة الدولية للرواية كاتب ياسين عن رواية ‘حفيدات جريتا جاربو وقد سعدت بهذه الجائزة التي تحمل اسم أهم الكتاب العرب المغاربيين في القرن الماضي ‘كاتب ياسين’، فكانت تشريفا للأدب المغربي ولجيلي على الأخص.
وفي مجال الشعر فقد شرفني أن أحظى بجائزة ‘سيمون لاندراي للشعر النسائي’ بباريس في دورتها الخامسة عشرة كامرأة مغربية وعربية تسعى نحو هذا الأفق المشترك بين النساء في العالم، بما أن هدفي من كتابة الشعر لم يكن، ومنذ البداية، هو السعي نحو أناقة اللغة وجمالية الصورة فقط، وإنما هو السعي إلى نص إنساني لنسج علاقات إنسانية بلا حدود عقائدية أو سياسية، كما أنها كانت محفزا لي على الاستمرار في الاعتناء بالجانب الشعري لتجربتي الإبداعية الذي أهملته قليلا لصالح الرواية”