تغضب واشنطن فتستفيد بكين

نيويورك - فتح تعليق الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف تمويل منظمة الصحة العالمية بعد اتهامها بسوء إدارة وباء كورونا والتواطؤ مع الصين الباب أمام نقاشات تتساءل عن مرد هذه الخطوة وأهدافها وخاصة حول تداعياتها مستقبلا على شكل موازين القوى دوليا.
ويدفع تراجع دور الولايات المتحدة في شؤون العالم إلى فتح نافذة جديدة لنفوذ صيني متزايد منذ سنوات في وكالات الأمم المتحدة على غرار منظمة الصحة العالمية التي ندد الرئيس الأميركي ترامب بإدارتها لأزمة انتشار فايروس كورونا المستجد.
ويتّخذ هذا التقدم البطيء والمستمر للقوة الناعمة الصينية أشكالا متعددة إذ يستند إلى التزام مالي وعسكري ويظهر عبر اكتساب مناصب في كل مكان بدءا بمتدرب ووصولا إلى مدير عام وكالة، وعبر علاقاتها مع كل الأطراف الممكنة.
ويصح المثل في حالة القارة الأفريقية، فقبل عشر سنوات كان دين أفريقيا للصين ضئيلا. اليوم وفيما تكثف بكين في مشاريع الاستثمار في الدول الأفريقية عبر برنامجها العملاق “طريق الحرير”، بات يبلغ 140 مليار دولار، كما كشف مسؤول في الأمم المتحدة.
وبشكل آخر، يعتبر ذلك أداة قوية للاستفادة من الدعم الأفريقي في موضوع ما، في وكالة متعددة الأطراف على سبيل المثال.
وتتهم واشنطن منظمة الصحة العالمية التي يديرها الإثيوبي تيدروس أدهانوم غيبرييسوس بأنها قللت من أهمية انتشار الفايروس الذي ظهر في الصين، بضغط من بكين.
وقالت أليس أيكمان مسؤولة آسيا في المعهد الأوروبي لدراسات الأمن “ما نلاحظه منذ أكثر من عشر سنوات وخصوصا منذ 2012 (مع رئاسة شي جينبينغ) هو نشاط قوي للدبلوماسية الصينية لإعادة هيكلة الحوكمة العالمية. الطموح قوي لأن الصين تتحدث عن قيادة إعادة الهيكلة هذه”.
ويلاحظ الأمر ذاته في كثير من وكالات الأمم المتحدة: الولايات المتحدة تنطوي على نفسها، والصين ترسم خطها دون اللجوء أبدا إلى مواجهة.
بالإضافة إلى زيادة المشاركة في قوات حفظ السلام في العالم، باتت بكين ثاني أكبر مساهم مالي في الأمم المتحدة في نيويورك بعد الولايات المتحدة لتحل مكان اليابان.
ولا شك في أن المال الأداة المفضّلة عندما يتعلّق الأمر بالوكالات الدولية، كما هو الحال في اليونسكو في باريس. فقد ترافق انسحاب الولايات المتحدة في مطلع 2019 من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة بتهمة الانحياز على حساب إسرائيل مع نفوذ متزايد للصين في هذه الوكالة حيث أصبحت أول مساهم فيها.
وبكين حاضرة جدا أيضا في البرامج التعليمية للنساء والفتيات كما أن المسؤول الثاني في اليونسكو هو الصيني شينغ تشو.
وقال مسؤول رفض الكشف عن اسمه “لقد نجحنا في إيجاد توازن: إنهم موجودون بشكل قوي دون فرض أي شيء”.
وكتبت أستاذة الاقتصاد في لشبونة كاتيا باتيستا في صحيفة واشنطن بوست الخميس “مع تراجع هيمنة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وتفكك أوروبا ومتابعة الصين لمصالحها الخاصة، نحن بالفعل في مواجهة مشكلة”.
تثبت سلطة الصين أيضا في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في روما كما في منظمة الطيران المدني الدولي في مونتريال.
في 2019 تولى الوزير الصيني السابق تشو دونغيو رئاسة منظمة الأغذية والزراعة فيما يدير صيني أيضا منظمة الطيران المدني الدولي منذ عام 2015 هو فانغ ليو.
يقول أحد الخبراء في هذه الوكالة المسؤولة عن تنظيم النقل الجوي، إن النفوذ الصيني “حقيقي ومتزايد” موضحا أن بكين باتت الآن ثاني مساهم مالي فيها بعد واشنطن.
وفي نهاية عام 2019، علقت الولايات المتحدة مساهمتها المالية في منظمة الطيران المدني الدولي لتسريع العديد من الإصلاحات. وقال المصدر نفسه رافضا الكشف عن اسمه “إنهم يستخدمون مساهمتهم كوسيلة ضغط”.
وفي اليونسكو لم يؤد هذا التكتيك الأميركي إلى تداعيات كبرى تقلب المقاييس بالنسبة للمنظمة، فماذا سيحصل بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية؟
في فيينا كان عدم الاكتراث النسبي للقوى الكبرى الغربية بمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية في بلدان الجنوب وراء قيام الصين باستخدامها “كنقطة انطلاق” لزيادة نفوذها في المنظمات الدولية. ولا يزال مديرها العام الوزير الصيني السابق لي يونغ الذي تولى مهامه منذ 2013.
أما بالنسبة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن الولايات المتحدة، أكبر مساهم مالي قبل الصين، تقول إنها لم تفقد نفوذها منذ الانسحاب الأميركي الأحادي من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران والقوى الكبرى. لكن الواقع مختلف بعض الشيء لأن الصينيين باتوا في الصفوف الأمامية مع الروس والأوروبيين.
وقالت أليس إيكمان “بعد انتخاب دونالد ترامب، عززت الصين مكانتها كقوة ضامنة لتعددية الأطراف”، مضيفة أن “أزمة كوفيد – 19 تشكل حدثا ثانيا مسرّعا” لكي تواصل بكين “الاستثمار في الحوكمة العالمية في كل الاتجاهات”.
وتابعت “ومنظمة الصحة العالمية ليست سوى مؤسسة من بين مؤسسات أخرى”. وأوضحت “على المدى الطويل، ترغب الصين في ظهور حكم عالمي لفترة ما بعد حكم الغرب، تتولى فيه دورا مركزيا”.