تغريدات سلمية

من دواعي السرور في عهد يسمح بالاتصال مع أي كان مشاهدة داعمي التسامح والتفاهم والسلام على صفحات التواصل الاجتماعي بعد أن تعرضت صورتها للتشويه.
الخميس 2020/10/22
تواصل مشترك

حققت شبكات التواصل الاجتماعي طفرة نوعية في قدرة الناس على التواصل المشترك، وهو أمر متميز كبير الأهمية حين يدور الحديث حول جمهور الدول المتنازعة. لنأخذ مثلا مواطني العربية السعودية أو العراق أو تونس أو سوريا أو أي دولة عربية أخرى ممن لم يسبق لهم اللقاء أو تبادل الحديث مع مواطنين إسرائيليين، نراهم اليوم يتبادلون الحديث يوميا، سواء كان عبر تويتر أو إنستغرام أو فيسبوك، أوغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا ما يحدث فعلا. وفي حالات عديدة يكون الخطاب المدني بين الأفراد قد بدأ قبل فترة طويلة من بلوغ الاتصالات بين حكومتي الدولتين المتنازعتين مرحلةَ التعاون العلني والتطبيع. ويمكن مشاهدة ذلك بوضوح شديد عند النظر إلى اتفاقات “أبراهام” المعقودة بين إسرائيل وكل من دولة الإمارات والبحرين، إذ أن مواطني الأطراف الثلاثة باشروا الحوار المشترك قبل شهور عديدة من إعلان التوصل إلى اتفاقية سلمية، وذلك على الشبكات الاجتماعية، ومن خلال تبادل المشاركات والتعليقات على فيسبوك.

كل إنسان بإمكانه اختيار الطريقة التي يستخدم بها الشبكات الاجتماعية، وهو قادر بكبسة زر على توجيه الشتائم والسباب إلى الطرف الآخر للنزاع، أو على محاولة أيجاد حوار بناء معه

وهناك محاولات لتعلم اللغتين العربية والعبرية بالتعاون بين الطرفين، وتبادل وصفات الأكل والحكايات المضحكة، والاستماع إلى أغاني الطرف الآخر، وتأديتها أحيانا، بل امتدت أحاديثهم إلى قضايا وأمور أكثر حساسية، وهم بذلك قد خاضوا كفاحا ضد الصور النمطية الرائجة عند الطرف الآخر حول دولتهم، والأهم من ذلك كله أنهم تعلموا ثقافة الآخر ومميزات بلده.

وعلى ضوء ذلك، ليس مستغربا أن يثير إعلان السلام هذا الحجم من الفرحة الغامرة، عند متابعي تويتر وفيسبوك وإنستغرام، من أبناء الطرفين، الذين ساهم بعضهم، وبمجرد نشاطه، عبر شبكات التواصل الاجتماعي في تآلف القلوب، بل الأكثر من ذلك أن هذا السلام بات يسمى في معظم الأحيان “سلام الشعوب”.

لقد باتت ممكنة اليوم مشاهدة العديد من الإسرائيليين وهم يغردون باللغة العربية، بينما يغرد سكان من الدول العربية باللغة العبرية، في الوقت الذي يتآلف فيه جمهور الطرفين. رغم ذلك لا يجوز الاعتقاد بأننا بصدد اتجاه جديد نشأ بين عشية وضحاها، فقد تعاظمت هذه الظاهرة خلال السنتين الأخيرتين، إذ أمضى العديد من الناس وقتا طويلا في تذليل حاجز الخوف ومباشرة الحديث مع مواطني طرف النزاع الآخر.

لقد قال المفكر رالف والدو إمرسون “افعل دائما ما تخاف أن تفعله”، وفعلا بات عدد متزايد من الناس سواء في إسرائيل أو في الدول العربية، ومن ضمنهم من تحلوا بقدر كبير من الجرأة، يستفيدون من وفرة الإمكانات التي تتيحها الشبكات الاجتماعية؛ يتبادلون الحديث مع الطرف الآخر، وينفتحون على ثقافة جديدة في تناول الطعام والاستماع إلى الموسيقى والاستمتاع بالفن، وكذلك مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، ومنها مسلسل “فوضى” الإسرائيلي، الذي اكتسب جمهورا كبيرا من المتابعين في عدد غير قليل من الدول العربية. كما أنهم يتبادلون التهاني في الأعياد الدينية والوطنية، ويرفع بعضهم أعلام الطرف الآخر، معبرين عن أملهم في لقاء شخصي مباشر.

ومن أفضل الأمثلة على ذلك العراق والمغرب، حيث يعيش في إسرائيل يهود كثيرون ينحدرون من هاتين الدولتين، بل ظل الجزء الأكبر منهم متمسكا بثقافة بلده الأصلي، وهم شديدو الرغبة في التحاور مع سكان العراق والمغرب.

وقد تأسست على فيسبوك، في السنين الأخيرة، مجموعات متعددة تسمح لأبناء الطرفين بتبادل الحديث بشكل مباشر حول مواضيع شتى تجمع بينهم. ومن هذه المجموعات مجموعة على فيسبوك يبلغ عدد أعضائها الـ70 ألفا تقريبا، والمسماة “نحافظ على اللغة العراقية”. ويدور على صفحات المجموعة حديث دائم بين سكان العراق من جهة واليهود المنحدرين من أصل عراقي من جهة ثانية.

لقد باتت ممكنة اليوم مشاهدة العديد من الإسرائيليين وهم يغردون باللغة العربية، بينما يغرد سكان من الدول العربية باللغة العبرية، في الوقت الذي يتآلف فيه جمهور الطرفين

كما أن هناك مدونة يطلق عليها “مسعودة” تابعة لمواطنة إسرائيلية من أصل مغربي تدور ضمنها الأحاديث بين الإسرائيليين والمغاربة حول وصفات الأطعمة والشؤون الثقافية، ولكن ثمة أيضا دولا أخرى ومن بينها السعودية التي يمكن ملاحظة أعداد متزايدة من مواطنيها وهم يتجرؤون على الكشف عن هوياتهم وتوجيه رسائل التصالح باللغة العبرية إلى الجمهور الإسرائيلي.

ومن دواعي السرور في هذا العهد، الذي يسمح بالاتصال مع أي كان خلال ثوان، مشاهدة الناس من داعمي التسامح والتفاهم والسلام على صفحات الشبكات الاجتماعية، بعد أن كانت صورة هذه الشبكات تتعرض للتشويه طوال سنين بدعوى أنها أصبحت منبرا لنشر الأكاذيب والتحريض وزرع التناقض بين الأصدقاء وبين المتابعين وبين الواقع الذي يعيشونه، أضف إلى ذلك استغلال الجماعات الإرهابية لها لتحقيق مآربها.

كل إنسان بإمكانه اختيار الطريقة التي يستخدم بها الشبكات الاجتماعية، وهو قادر بكبسة زر على توجيه الشتائم والسباب إلى الطرف الآخر للنزاع، أو على محاولة أيجاد حوار بناء معه.

يقول المثل “لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك”، ولعله يجوز لنا أن نقول “لوحة مفاتيحك حصانك إن صنتها صانتك وإن خنتها خانتك”.

9