تعثر الإعلام والسياسة قد يفشل الانتقال الديمقراطي في تونس

وضع الإعلام لا يستجيب للوظائف المعيارية التي حددها المختصون بناء على تجارب الانتقال الأخرى، وعرض تنقيح القانون الانتخابي على البرلمان في غفلة من الإعلام من المؤشرات على الفشل.
تونس - فوجئ التونسيون في 12 يونيو بالبرلمان يناقش القانون الانتخابي بإدخال تعديلات عليه يقر الجميع بأنها تهدف إلى إقصاء المرشحين لانتخابات الخريف القادم نبيل القروي صاحب تلفزيون نسمة وعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر وألفة التراس رئيسة جمعية “عيش تونسي” التي لم يسمع التونسيون عنها شيئا قبل شهور قليلة.
وبصرف النظر عن غليان البرلمان يومها وعن مظاهر اللغط والجدل والسخط أو الرضا التي صاحبت أعمال المجلس من 12 يونيو وامتدت إلى ما بعد الثامن عشر منه، يوم المصادقة على التعديلات، فإن المشكلة الحقيقية هي أن الإعلام لم يتداول إلاّ قليلا تلك التعديلات قبل عرضها على النقاش بل إن بعض رؤساء الكتل فوجئوا بها يوم الجلسة العامة.
ويمثل ذلك مؤشرا خطيرا على سلامة الانتقال الديمقراطي في تونس إذ أن الانتقال الإعلامي هو جوهره كما يرى عدد من الباحثين، في ما أصبح يسمى منذ سبعينات القرن الماضي بـ”علوم الانتقال الديمقراطي”، مثل فولتمار وأودونيل ووايتهيد ولينز وغيرهم من الباحثين المتخصصين في ذلك المجال أو مجال “دراسات الدمقرطة”.
وهناك اتفاق واسع، عند هؤلاء الذين درسوا تجارب الانتقال الديمقراطي في الكثير من البلدان، على أن مظاهر عطل الانتقال الإعلامي أو فشله ثلاثة وهي غموض العلاقات بين السياسيين والصحافيين أولا، وفشل المؤسسات الإعلامية الخاصة المحدثة أثناء الانتقال ثانيا، واستمرار الممارسات الإعلامية القديمة في المؤسسات الإعلامية بعد زوال الاستبداد آخرا.
ويقابل مظاهر العطل أو الفشل الثلاثة في الانتقال الإعلامي إخلال الإعلام والنخب السياسية بثلاث وظائف هي وظيفة الإعلام في مراقبة النخب السياسية ومساءلتها أولا، ووظيفة إنشاء حوار سياسي يطلع الرأي العام على ما يجري ثانيا، ووظيفة تنشئة المقبلين على الديمقراطية وتثقيفهم آخرا.
من أسباب انحسار النقاش العام ندرة البرامج الإخبارية السياسية في التلفزيونات التي يقبل عليها التونسيون أكثر من الإذاعات والصحف
إن أول مظاهر التعثر في الانتقال الإعلامي في تونس علاقة الإعلام بالسلطة، وبالنخب السياسية عامة، علاقة يشوبها الغموض والريبة. والأمثلة على ذلك كثيرة منها اتهام الحكومة قبل عامين بتلقي أموال بريطانية وتوزيعها على صحافيين لتلميع صورتها وإن لم يثبت شيء من ذلك.
وقد بلغ الأمر حد التطرق إليه في البرلمان في 12 نوفمبر 2018، عند التصويت على الحكومة الجديدة، حين سأل نائب رئيس الحكومة عن الأمر دون أن يتلقى جوابا، ومثال آخر مقاطعة حزب نداء تونس لأربعة وسائل إعلام، في الشهر نفسه، بسبب “التجاوزات التي تعرض لها الحزب في عدد من وسائل الإعلام، وعمليات إقصائه بتعليمات فوقية” وأمثلة أخرى كثيرة صادرة عن المؤسسات المهنية والنقابية والتعديلية.
وبصرف النظر عن ثبوت الادعاءات أو بطلانها فإن النتيجة واحدة إذ أن العلاقة بين الإعلام والسياسة غامضة في أذهان الناس. ويتهم كثير من التونسيين على فيسبوك وسائل إعلام بعينها بأنها تسير في ركاب الحكومة أو رئاسة الجمهورية أو حركة النهضة بل يسمون صحافيين يتهمونهم بمحاباة فرق أو معاداة أخرى.
والأدهى من ذلك كله تصرفات الحكومة المتجاهلة للإعلام، وما جرى في البرلمان بشأن قانون الانتخابات ماهو إلاّ مثال عما تتخذه الحكومة من قرارات أو مبادرات لا يسمع عنها الصحافيون والناس إلا متأخرا. وإخفاء مثل تلك المبادرة عن الإعلام هو استبعاد للمواطنين من المشاركة فالحكومة لا تخفي بذلك أمرا عن الإعلام بل تخفي الأمر كله عن المواطنين.

ويظهر هنا إخلال الإعلام بوظيفته المتمثلة في مراقبة السلطة السياسية ومساءلتها. والواقع أنه أمر مستبعد بل يكاد يكون مستحيلا طالما أن العلاقة بينهما غامضة ومريبة. إن من سمات الأنظمة الاستبدادية صمت السلطة عن خياراتها ومبادراتها في حين أن الانتقال يقتضي أن تطلع السلطة المواطنين على ذلك خلال مدة معقولة للتحاور فيها وفهمها.
وهناك مغالطة كبرى في تونس تسوّق أن قانون النفاذ إلى المعلومات يتيح للصحافيين الاطلاع عليها ووجه المغالطة أن المعلومات المقصودة هي “معلومات باردة” تصلح للصحافة الاستقصائية لكنها لا تتيح إنتاج أخبار تطلع الناس على أن الحكومة عرضت مثلا تنقيح مشروع القانون الانتخابي قبل أيام من مناقشته.
ويتبين في هذا المستوى تعثر الإعلام في وظيفته الثانية وهي الإسهام في بناء حوار سياسي ينشئ نقاشا عاما حول العقد الاجتماعي الذي يصله بالسياسيين وبالمواطنين. ومرد فشله في تحرير الفضاء العام هو فشله في وظيفته الأولى التي تقتضي منه مراقبة السلطة السياسية ومساءلتها.
فكيف يمكن للإعلام أن يؤدي وظيفة إنشاء النقاش العام إذا كان غير مطلع على خيارات الحكومة؟ وما النقاش العام إلاّ المداولات بين الناس والسياسيين من خلال ما ينشره الإعلام ويفسره وينقده. وتسبق المداولات العامة في الديمقراطية المداولاتِ البرلمانية حتى يصوت النواب في ضوء ما يتفق عليه أكثر الناس لا أن يصوتوا بأوامر حزبية قد لا تكون لها صلة برغبات الناس.
ومن أسباب انحسار النقاش العام كذلك ندرة البرامج الإخبارية السياسية في التلفزيونات التي يقبل عليها التونسيون أكثر من الإذاعات والصحف. وهنا مكمن الفشل الثاني الذي يهدد الانتقال الديمقراطي وهو إحداث قنوات تلفزيونية خاصة بعد 14 يناير وحتى قبلها ( نسمة وحنعبل)، لم تلعب الدور المنتظر منها في مرحلة الانتقال الديمقراطي.
لقد أنشئت تلك القنوات بعد 14 يناير بتصاريح صريحة لمؤازرة الديمقراطية الناشئة ويكون ذلك أساسا بأن تسهم تلك التلفزيونات، والإذاعات كذلك، في إذكاء روح المشاركة السياسية لدى الناس ببث برامج ترغبهم في الإقبال على المتابعة والنقاش. وقد ألزم المرسوم 116 الهيئة العليا المستلقة للاتصال السمعي والبصري بالسهر على أن تكون القنوات التلفزيونية والإذاعية، الخاصة منها والعمومية، “داعمة للديمقراطية”.
لقد فشلت تلك القنوات في أداء المهمة إذ عوض أن تكون مضامينها تدفع أولا نحو تقوية الديمقراطية وتركيزها جاءت قائمة على التسلية ببرامج توك شو والألعاب، والتهريج أحيانا، والدراما… إن “دعم حقوق العموم في الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام” كما يفرضه القانون لا يكون بمخاطبة المشاهد مستهلكا بل مواطنا.
وإذا فشل الإعلام الخاص في الدفع نحو الحوار السياسي وآثر مضامين اللهو فإنه لن ينجح منطقيا في أداء الوظيفة الثانية التي يرى الباحثون أنها خاصة بالانتقال الديمقراطي، خلافا للوظائف الأخرى التي تكون ضرورية حتى في الديمقراطيات العريقة، وهي وظيفة تنشئة الناس على المشاركة في الحياة السياسية وتثقيفهم.

والتثقيف ضرورة لأن الناس يواجهون في مرحلة الانتقال مفاهيم ومفردات وممارسات جديدة ذات بعد قانوني وسياسي وحقوقي تدور حول محور الديمقراطية. والديمقراطية كما يعرفها الباحثون في علوم الانتقال “مجموعة قيم وعادات وعقائد” فهي ثقافة جديدة على الإعلام نشرها حتى يكون أشبه “بالمربي الجماعي”.
وقد يبدو الأمر بديهيا غير أنه ليس كذلك فكثيرا ما نرى تونسيين يستهجنون ترشح عمرو أو زيد للانتخابات. وإن كان من حقهم التعبير عن رأيهم في المرشحين فإن بعضهم قد ينسى أن جوهر الديمقراطية هو حق الناس جميعا في الترشح والتصويت ما لم يكن هناك مانع قانوني. وقد ننسى أن التحول الأكبر في تاريخ الديمقراطية حدث في نهاية القرن الثامن عشر بالسماح للجميع بذلك بعد أن كان الترشح لعلية القوم والانتخاب لمن يدفع فقط.
إن مرد غياب تثقيف الجمهور أو ضعفه ممارسات السلطة والمضامين التي لا تخدم الانتقال وتكبيل الصحافيين، وهي ممارسات تؤبد في المؤسسات الصحافية ما كان سائدا قبل 14 يناير. فإن كانت السلطة تتدخل في إنتاج المضامين أو فرضها بشهادة هشام السنوسي عضو الهيئة التعديلية، حسب شهادات نقلها له رؤساء مؤسسات إعلامية، فإن ذلك لن يغير ممارسات الصحافيين.
قد ينجو الإعلام من التدحرج في منزلق الانتقال لينطلق من جديد عندما تصبح الديمقراطية عقدا حقيقيا بين المنتخبين والناخبين لا خطابا عند السلطة ووهما عند الناس وعندما يخف ثقل العصبية القطاعية المهنية التي تعسّر على الجميع ولا تيسر على أحد.