تطور أنماط الحياة زاد من حضور الأطياف والأشباح في السرد

التونسي علي السياري يؤسس لعلاقة جديدة بين القارئ والرواية العجائبية.
الثلاثاء 2023/10/31
الحياة المعاصرة مليئة بالفزع (لوحة للفنانة رندة مداح)

يحفل السرد العربي منذ القدم بالكثير من مظاهر العجائبية، حتى أنها باتت سمة تميزه عن بقية الآداب العالمية، لكن دراسة التوجه العجائبي في محيطها الثقافي وحتى الاجتماعي علاوة على الأدبي، يكشف واقعا آخر لهذه الظاهرة التي لم يكن طريقها سالكا، وواجهت الكثير من الموانع وسطحية الفهم، وهذا ما يتجاوزه كتاب “أطياف العجائبي: من الأفق السردي إلى الأفق الثقافي”.

تونس - يتألف كتاب “أطياف العجائبي: من الأفق السردي إلى الأفق الثقافي” للناقد والأكاديمي التونسي علي السياري من ثلاثة أبواب، يتناول أولها “هيرمينوطيقا العجائبي”، وفيه فصلان اثنان هما “العجائبي من منظور النقد الغربي”، و”العجائبي من منظور النقد العربي”. وأما الباب الثاني فعنوانه “شعرية العجائبي” ويحتوي على ثلاثة فصول، وهي “عتبات الكتابة واللغة الروائية”، “خصائص الحكاية في السرد العجائبي”، “الخطاب القصصي العجائبي”. بينما خصص الباب الثالث والأخير لدراسة “العجائبي والثقافة: نحو منظور جديد”، وذلك في فصلين “روافد العجائبي في المخيال الروائي المغاربي” و”جماليات تلقي العجائبي”.

ورغم أن الباحث اعتمد مدونة سردية ليشتغل عليها في بحثه وهي مدونة تشتمل على عشر روايات عربية مغاربية، فإنه يبدو لنا من خلال عنوان الكتاب أن الباحث يتناول بالدراسة قضية العجائبي في حد ذاتها وليس قضية الرواية العجائبية. والأكيد أن الفرق واضح بين القضيتين رغم التقارب بينهما.

فهم العجائبي

كتاب يتناول بالدراسة قضية العجائبي في حد ذاتها وليس قضية الرواية العجائبية
كتاب يتناول بالدراسة قضية العجائبي في حد ذاتها وليس قضية الرواية العجائبية

ويضع الكاتب في مقدمة الكتاب، الصادر مؤخرا عن دار عليسة، عنوانا فرعيا وهو “التفكير في العجائبي.. بين الفلسفة والأدب”، وكأنه بذلك يعقد عهدا أو ميثاقا بينه وبين قارئ الكتاب مفاده أن البحث منفتح على الفلسفة مثلما هو منفتح على النقد الأدبي، وهو ما نتبينه بوضوح في قراءتنا للكتاب، ومفاده أيضا أن الناقد ربما يتحول إلى مفكر حين يستدعي السياق ذلك، خاصة أن القضية المطروحة تغري بالتأمل والتفكير قبل أن تغري بالتشريح النقدي.

وينطلق الباحث في مقدمة كتابه من توظيف رواية طريفة منقولة عن أكاديمي عربي يقيم في الولايات المتحدة الأميركية، وهي تتصل بأحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة إحدى وألفين، ويلاحظ من خلالها أن الواقع، أحيانا، يفوق الخيال إدهاشا واستعصاء عن التصور. ويبين الناقد من خلال مقدمة كتابه أن الرواية المعاصرة استفادت من هذه العلاقة المعقدة بين الواقع والخيال، حيث إن انفتاح الرواية على الواقع يمكن أيضا أن يجعلها رواية ذات منحى عجائبي بسبب ما يسم الواقع المعاصر من عناصر غرابة.

وقد حاول الناقد في الباب الأول من كتابه تقديم بعض التعريفات لمفهوم العجائبي دون أن يقع في جرد متسرع لهذه التعريفات وتقديمها للقارئ دون وعي نقدي بها، بل إنه بحث في المقاربات الكبرى للعجائبي، وقارن بينها، وانتقدها، وأظهر عيوبها وبعض نقائصها، وبحث في الخلفيات الفلسفية والسياقات الثقافية لظهور العجائبي ثم تلاشيه في فترة من الفترات ثم عودته من جديد بأساليب جديدة ومستحدثة.

بعض أنماط الرواية الحديثة نجحت في التقاط الأطياف وتوظيفها في عوالمها السردية وفق شكل مخصوص

وسعى الناقد إلى البحث في تأويلات العجائبي وفهمه لدى بعض الروائيين سواء في الغرب أو في العالم العربي، وأحدث مقارنات بين الفهم الغربي للعجائبي والفهم العربي له انطلاقا من التصورات الإبداعية لمختلف الروائيين الذين ألفوا في العجائبي. وكذلك، تعرض الناقد بالدراسة في الباب الأول من كتابه لمسألة ترجمة مصطلح “العجائبي” والمصطلحات القريبة منه مثل “العجيب” و”الغريب”، ولاحظ أن المترجمين والنقاد العرب اختلفوا اختلافا كبيرا في ترجمة هذه المصطلحات مثلما اختلفوا في فهمها وفي طرق تلقيها، واعتبر السياري أن ذلك جعل قضية “العجائبي” تزداد غموضا وتعقيدا.

وبعد أن درس الباحث في الباب الأول من كتابه أهم مقاربات العجائبي، وقارن بينها، وكشف حدودها ومكامن الخلل فيها، حاول في الباب الثاني من عمله البحث في بنى العجائبي في السرد الروائي من خلال عشر روايات عربية مغاربية، فرصد أهم تجليات العجائبي على العديد من المستويات في الحكاية وفي الخطاب. وفي هذا الباب بدا الناقد غير مكتف بعمله النقدي الذي نجده عادة في كتب النقد الأدبي، حيث إنه بالإضافة إلى ذلك لاحظنا أن الناقد تحول إلى مفكر في بعض القضايا الفلسفية المتصلة أساسا بقضية العجائبي، ولذلك نجده يوظف مفاهيم فلسفية كثيرة، ويستفيد من نظريات فلسفية ذات علاقة مباشرة بنظريات الأدب فيعود إلى مراجع فلسفية مثلما يعود إلى المراجع النقدية الأدبية.

الأطياف والروايات

Thumbnail

ولعل أطرف ما تعرض إليه الناقد في الباب الثاني من عمله هو دراسته لقضية “الأطياف”، وذلك في ضوء تحليله لنماذج من الشخصيات في السرد العجائبي. ويرى السياري، في هذا السياق، أن الأطياف، باعتبارها تحضر في الأدب، وتمثل موضوعا طريفا من مواضيعه خاصة حين يتعلق الأمر بالأدب العجائبي، هي من المفاهيم الزائغة واللينة حيث لا تكاد تستقر على تعريف واحد.

 ويبين أن تلك المفاهيم متحولة ومتبدلة ومتشعبة، ويعد التعامل معها نوعا من المخاطرة خاصة أنها تحولت من دلالتها على عودة الموتى وظهور أطيافهم في الأماكن الخالية والمهجورة أو الصحارى القاحلة (كما هو الحال في جزء كبير من الأدب العجائبي الكلاسيكي)، إلى دلالتها على “بؤس العالم”، وكذلك، دلالتها على تعقد الحياة الحديثة وتأزم الإنسان وعبثية أفكاره في مجتمع محاصر بالأفكار الجاهزة والصور النمطية التي تفرضها عليه أجهزة الميديا الحديثة. فهي إذن أشباح الحياة الحديثة، وهي إفراز من إفرازات العصر الذي نعيش فيه سواء أ تعلق الأمر بعيشنا في المدن أو الأرياف أو حتى في الصحارى. وهكذا، فإن الطيف في الأدب الحديث، من منظور علي السياري، يوحي بوجود أزمة ما مثلما يوحي أيضا بوجود غرابة متعلقة بمفارقة ما.

الطيف في الأدب الحديث، من منظور علي السياري، يوحي بوجود أزمة ما مثلما يوحي أيضا بوجود غرابة متعلقة بمفارقة ما

ويلاحظ الناقد أن الدراسات النقدية والفلسفية المتعلقة خاصة بما بعد الحداثة أضحت تولي الأطياف أهمية غير مسبوقة باعتبار أن الحياة المعاصرة أضحت مليئة بأشكال الفزع والرعب، وهي تقوم على جدلية التجلي والخفاء، المرئي واللامرئي، الحضور والغياب والامتلاء والفراغ. وإلى جانب ذلك فإن العالم، اليوم، أضحى مليئا بالأطياف والأشباح والأرواح الهائمة التي تثير القلق وتخلق الغرابة، وذلك نتيجة تعقد الحياة المعاصرة وتفاقم الأمراض النفسية والعصابية والذهنية والعقلية وازدياد حالات الاكتئاب والشعور بالخواء والفراغ الروحي والخوف من المستقبل والحنين إلى الفردوس المفقود الذي يسكن وجدان كل إنسان والذي يمثل رمزا للامتلاء الروحي والخلاص الأبدي.

 وقد نتج الحضور الكثيف والمتزايد للأطياف والأشباح عن تطور أنماط العيش وتبدل الحياة التي أضحت في طورها الافتراضي من خلال الثورة التكنولوجية المعلوماتية وظهور مجتمع التبادل السيبرنيطيقي ومجتمع الموضة والاستعراض والاستهلاك، وكذلك من خلال سيادة عصر الصورة والتطور الهائل لوسائل الإعلام والميديا التي أضحت تتحكم في مصير العالم بما تبثه من صور ومشاهد مؤثرة وحاملة لأشباحها وأطيافها الخاصة مثلما بين ذلك الناقد موريس ليفي. وهكذا فإن فكرة الأطياف أو الأشباح هي فكرة مجازية ودلالية ثقافية بالأساس. وقد نجحت بعض أنماط الرواية الحديثة في التقاط هذه الأطياف وقامت بتوظيفها في عوالمها السردية وفق شكل مخصوص للإبداع الروائي.

ضد الخيال

علي السياري: الثقافة العربية الإسلامية اختارت مرجعياتها، وشكلت نظمها وبناها النسقية وفق شكل يستجيب لسلطتها الفقهية
علي السياري: الثقافة العربية الإسلامية اختارت مرجعياتها، وشكلت نظمها وبناها النسقية وفق شكل يستجيب لسلطتها الفقهية

ينتهي الناقد في الباب الثالث من كتابه إلى دراسة العلاقة بين العجائبي والثقافة حيث يبحث في العوامل التي تجعل السرد الروائي ذا المنحى العجائبي يجد قابلية ومقروئية أو لا يجدها. فيبحث، ويحلل، ويقارن، ثم يؤسس لعلاقة جديدة بين القارئ والرواية العجائبية العربية انطلاقا من أحدث نظريات القراءة والتلقي.

وإلى جانب ذلك يحاول الباحث في هذا الباب الأخير من عمله “فضح” ما يسميه “المكائد الثقافية” التي حاكتها الثقافة العربية الإسلامية ضد الخيال وأساسا ضد الأدب العجائبي العربي القديم المتمثل أساسا في كتاب “ألف ليلة وليلة”. وفي هذا السياق يرى الناقد أن الثقافة العربية الإسلامية حاربت كل أشكال التخييل فأقصت المعتقدات والحكايات الشعبية والأساطير من دائرتها المغلقة، وهو ما جعل حكايات شعبية في قيمة “ألف ليلة وليلة” لا تجد حظها من الاهتمام والعناية حيث ظلت تتعرض إلى الإقصاء ويمنع تداولها خاصة في الأدب.

ويرى الناقد علي السياري أن الثقافة العربية الإسلامية اختارت مرجعياتها، وشكلت نظمها وبناها النسقية وفق شكل يستجيب لسلطتها الفقهية، وهي نظم وبنى محتكمة إلى سلطة شبه مطلقة للنصوص الدينية وللقائمين عليها من فقهاء وأئمة ومفسرين وغيرهم، فحسبت ما تنتجه المخيلة نوعا من الخطاب اللاعقلاني والهامشي الذي يجب أن لا يحظى بأي نصيب من الاهتمام. وهكذا كان التأثير في الذائقة العامة وفي نظريات النقد الأدبية منذ القديم حيث تم التعامل مع الحكايات الشعبية والمعتقدات باعتبارها أدبا سوقيا خاصا بالرعاع، ولا يرتقي إلى مستوى المعرفة العقلية.

13