تضخم قياسي في تركيا يُعرّض الليرة لمخاطر أكبر

تواجه السياسة الاقتصادية التركية انتكاسة جديدة ستكون تداعياتها أكبر مما يُتوقع، وفق محللين، جراء صعود التضخم إلى مستوى “تاريخي” سيشغل معه الخطوط الحمر بشأن قيمة الليرة التي باتت معرضة لخطر أكبر سينعكس سلبا على القدرة الشرائية للناس.
إسطنبول – يتجه التضخم في تركيا إلى تسجيل أعلى مستوى له في عقدين من الزمن، مما يجعل الليرة معرضة للخطر بشكل متزايد من خلال حرمان العملة المحلية من حماية حقيقية ضد عمليات البيع في السوق.
وتحاول الحكومة إبعاد البلد من دائرة تقلبات النمو العالمي بسبب الحرب في أوكرانيا والأزمة الصحية اللتين أثرتا كثيرا على مجمل الأداء التجاري والاستثماري وتسببتا في تراجع غير مسبوق في قيمة الليرة أمام سلة العملات الأجنبية.
ومع معدلات الفائدة الحقيقية في تركيا تعرضت الليرة بالفعل لضغوط، حيث سجلت أسوأ أداء في الأسواق الناشئة مقابل الدولار في مارس الماضي.
وبالنظر إلى هدف الرئيس رجب طيب أردوغان المتمثل في استخدام ليرة أرخص لتحويل تركيا إلى قوة تصنيعية، فإن رفع أسعار الفائدة لم يعد على جدول الأعمال على الأقل في الأشهر الأربعة الأخيرة.

فاتح أكيليك: المعالجة تتم عبر السياسة النقدية لا التعديلات المالية
وفي غضون ذلك تتسبب سلسلة الانخفاضات في الليرة، التي فقدت أكثر من 9 في المئة من قيمتها حتى الآن هذا العام و44 في المئة خلال 2021، في التضخم من خلال زيادة تكلفة الواردات. وبعد عقد من الضعف المطرد الممزوج بالانهيار العرضي، تواجه العملة خطر عام آخر من الأزمة.
وأعلن مكتب الإحصاء التركي الاثنين أن معدل التضخم زاد بواقع 5.46 في المئة خلال شهر ليصل إلى 60.14 في المئة وهو معدل أقل من متوسط تقديرات الخبراء بقليل. ويرى خبراء اقتصاديون أتراك وأجانب أن المكتب يقلل من حجم زيادة الأسعار بأكثر من النصف.
وأظهر استطلاع لرويترز الاثنين أنه من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم السنوي في تركيا إلى أكثر من 60 في المئة وأن ينخفض فقط إلى 52.2 في المئة بنهاية العام بسبب تأثير الصراع الروسي – الأوكراني وارتفاع أسعار السلع الأساسية.
وبلغ متوسط تقدير 17 مؤسسة في استطلاع التضخم السنوي لشهر مارس الماضي نحو 61.5 في المئة مع توقعات تتراوح بين نحو 58.25 و62.7 في المئة.
ومنذ أشهر يتعرض الأتراك، وخاصة الفئات الاجتماعية الهشة، لمتاعب متزايدة مع تواصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى في ظل السياسات النقدية المتبعة لدفع عجلة النمو الاقتصادي إلى الأمام.
وتلقي الأوساط الشعبية باللوم على الحكومة في صعود منحى التضخم، والذي تقول إنه زاد من قسوة معيشتها رغم أنه أمر تعاني منه كافة دول العالم، والتي كانت حكوماتها تمني النفس بالابتعاد تدريجيا عن نفق كورونا.
وأشار الاقتصاديون إلى توقعات بتضخم أسعار المستهلكين العالمية في أعقاب اندلاع الأزمة في شرق أوروبا مع وصول أسعار الطاقة إلى أعلى مستوياتها منذ عدة سنوات بعد أن فرض الغرب عقوبات على موسكو.
وتستورد تركيا كافة احتياجاتها من الطاقة تقريبا ما يجعلها عرضة لتداعيات التقلبات الكبيرة في الأسعار. وتشكل روسيا المصدر الرئيسي لها حيث تزودها بنحو 55 في المئة من احتياجاتها من الغاز و30 في المئة من احتياجاتها النفطية.
وارتفع مؤشر أسعار المستهلكين في تركيا منذ الخريف الماضي مع ضعف قيمة الليرة بعد أن بدأ البنك المركزي خلال سبتمبر 2021 في دورة خفض 500 نقطة أساس كان أردوغان يسعى لها منذ فترة طويلة.
وتسبب هبوط قيمة العملة في زيادة تكلفة الغذاء والوقود وأثار مخاوف من تأثيره الأوسع نطاقا على اقتصاد البلاد وقطاعها المصرفي. ويخشى خبراء بشكل خاص من إخفاق البنك المركزي في السيطرة على معدل التضخم.
وأدى تسارع وتيرة تراجع الليرة منذ الخريف الماضي وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة إلى رفع التضخم في فبراير الماضي إلى أعلى مستوى له منذ بداية 2022 مسجلا نحو 54.4 في المئة.
وجاء ذلك رغم التخفيضات الضريبية من قبل الحكومة على السلع الأساسية والدعم الحكومي لبعض فواتير الكهرباء لتخفيف العبء عن ميزانيات الأسر.
60.14
في المئة معدل التضخم في مارس 2022 ومن المرجح أن يواصل الصعود حتى نهاية العام
وبعد وقت وجيز من إعلان الحكومة عن إجراءات جديدة لحماية العملة وصل سعر صرف الدولار إلى نحو 18 ليرة بعدما كان عند نحو 7.5 ليرة العام الماضي، وهو مستقر عند 14.8 ليرة الآن.
ويرى خبراء أن التوقف المؤقت لسياسة البنك المركزي لمدة أربعة أشهر يعني أن أسعار الفائدة في تركيا، وهي بالفعل الأعلى في العالم حتى مع تعديلها، من المحتمل أن تصل إلى أعماق جديدة مع ارتفاع تكلفة كل شيء من الغذاء إلى الطاقة.
والسياسة النقدية المتساهلة للغاية في تركيا غير متزامنة مع التشدد المتزايد للعديد من البنوك المركزية حول العالم في وقت يستعد اقتصادها لصدمات فقدان السلع في ظل المخاوف من تباطؤ سلاسل الإمداد بسبب الحرب.
ويتفق الكثير من المختصين على أن تصعيد الحرب في أوكرانيا سيضر بالعملة التركية أكثر من خلال ارتفاع تكاليف الاستيراد، في حين أن الإنهاء السريع للصراع قد يؤدي إلى الحد من ارتفاع أسعار الفائدة العالمية. ونسبت وكالة بلومبرغ إلى محافظ المركزي شهاب كافجي أوغلو، وهو رابع شخصية تتولى إدارة البنك منذ العام 2018، قوله إن “دعم العملة المحلية سيكون هدفا رئيسيا هذا العام”.
لكنه مع ذلك أظهر القليل من الدلائل على أن هذا سيشمل موقفا أكثر تشددا في السياسة النقدية. ويأمل البنك المركزي الذي من المقرر أن يعقد مجلس إدارته اجتماعا منتصف الشهر الجاري في كبح نمو الأسعار من خلال اتخاذ تدابير لتشجيع إزالة الدولرة.
ومع بقاء المركزي على الهامش تحاول حكومة أردوغان احتواء الأسعار عن طريق جولة جديدة من التخفيضات الضريبية على القيمة المضافة على بعض المنتجات الأساسية، والتي دخلت حيز التنفيذ بحلول أبريل.
لكن التغييرات تمثل إجراء لمرة واحدة من غير المرجح أن تحرك إبرة الأسعار التي جعلت الطبقتين المحدودة الدخل والفقيرة تحت ضغوط شديدة. وقال الخبير الاقتصادي في دويتشه بنك فاتح أكيليك لوكالة بلومبرغ “نعتقد أن الضغوط التضخمية يجب معالجتها من خلال السياسة النقدية بدلا من التعديلات المالية الطفيفة”.
ورجح أن يظل التضخم في تركيا أعلى من 60 في المئة حتى نوفمبر المقبل ما يعني أن أنقرة أمامها الكثير من التحديات التي يمكن أن تفاقم متاعب الاقتصاد بشكل أكثر وبالتالي عكس ما يروج له المسؤولون وأولهم أردوغان.