تصفية حسابات سياسية وراء إثارة موضوع المدافع الأميركية للبيشمركة

تبدو إثارة قضية المدافع الثقيلة التي زودت بها الولايات المتحدة قوات البيشمركة الكردية بشكل متأخر ضعيفة الصلة بأي اعتبارات دفاعية وأمنية حقيقية، في مقابل ارتباطها الوثيق بالصراعات السياسية المتصاعدة بين فرقاء المشهد الباحثين باستمرار عن تفجير الألغام في وجه خصومهم ومنافسيهم سعيا لخلط الأوراق وإعادة ترتيبها بما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم.
بغداد- ثارت في العراق موجة اعتراضات شديدة على تسليح قوات البيشمركة الكردية بمدافع أميركية ثقيلة، وجرّت وراءها تساؤلات عن دوافعها الحقيقية لكونها جاءت بعد مضي أكثر من شهر على الإعلان بداية أغسطس الماضي عن هِبة البنتاغون لجيش إقليم كردستان العراق والمتمثلة في مجموعة مدافع الهاوتزر.
ومرّت الهبة الأميركية عبر موافقة السلطات الاتّحادية العراقية، ما جعل الاعتراضات عليها تتحوّل إلى انتقادات لحكومة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني الذي يواجه خلافات حادّة بين القوى المشاركة في تشكيل حكومته من أحزاب وفصائل شيعية وأيضا من تكتلات وأحزاب سنية وكردية.
وأثيرت قضية المدافع مباشرة بعد الزيارة التي قام بها إلى العراق الرئيس الإيراني المنتخب حديثا مسعود بزشكيان، ما أثار الأسئلة بشأن وجود دور محتمل لطهران في إثارة تلك الضجّة في ظل ما هو معروف من امتعاض إيراني من تعاون أكراد العراق مع الولايات المتّحدة، خصوصا بعد ما أثير بشأن إمكانية اتّخاذ القوات الأميركية لأراضي كردستان العراق مقرّا دائما لها في حال اضطرت إلى الانسحاب من مواقعها في عدد من المناطق العراقية الأخرى وفقا لما تطالب به القوى الشيعية الحاكمة في العراق.
وقال مصدر سياسي عراقي إنّ العامل الثابت في الضجة الثائرة حول تسليح البيشمركة بمدافع الهاوتزر، هو الخلفيات السياسية لمن قاموا بإثارتها في ارتباط بالصراعات المتصاعدة بين فرقاء المشهد السياسي والتي تطورت إلى تهديد حقيقي لاستقرار حكومة السوداني التي لم يعد البعض يستثني مطالبتها بالاستقالة.
وأوضح المصدر ذاته أنّ الغرض من تحريك قضية المدافع هو خلط الأوراق وتعقيد المشهد وتسليط المزيد من الضغوط على رئيس الحكومة، وأيضا تصفية الحسابات مع قيادة الإقليم، وتحديدا قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذين سوّقوا للهبة التي قدمتها وزارة الدفاع الأميركية باعتبارها إنجازا أمنيا وعسكريا كبيرا لهم ودليل ثقة من الولايات المتحدة فيهم وفي جدوى الشراكة معهم.
وكان وزير شؤون البيشمركة الكردية شورش إسماعيل قد أعلن في السادس من أغسطس الماضي عن تزويد البنتاغون قوات البيشمركة بأربعة وعشرين مدفع هاوتزر ثقيلا، واصفا اليوم المذكور بـ”التاريخي” ومتوقّعا أن ترفع تلك المدافع “من القدرات العسكرية للبيشمركة إلى مستوى أعلى”.
وقبل أن تدخل قوى شيعية على خط الجدل حول قضية المدافع، كان أول من أطلق الشرارة رئيس حزب تقدّم (سنّي) محمد الحلبوسي الذي استُبعد في نوفمبر الماضي من رئاسة البرلمان العراقي بقرار قضائي، ومازال منذ ذلك الحين يسعى لاستعادة المنصب لحزبه.
ويحظى في تلك المساعي بدعم عدد من القوى السياسية من مختلف الانتماءات الطائفية والعرقية، لكنّه يواجه أيضا تحالف قوى أخرى مع منافسيه الأمر الذي عقّد من مهمته وأدّى إلى تعطيل عملية انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب.
وأظهرت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني ميلا إلى جانب خميس الخنجر المنافس الرئيسي للحلبوسي الذي لا يبدو أيضا راضيا عن عدم دعم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني له.
وعلى هذه الخلفية مثّلت قضية مدافع الهاوتزر “لغما” سياسيا مناسبا للتفجير في وجه السوداني وبارزاني معا، وهو ما بدا بصدد التحقق إلى حدّ الآن مع التفاعل الكبير لكثير من القوى السياسية مع القضية.
وكتب الحلبوسي في حسابه على منصة إكس قائلا “نرفض رفضا قاطعا تسليح قوات محلية واجبها الدستوري يقتصر على حفظ أمن داخلي ضمن حدود مسؤوليتها بمدفعية ثقيلة متطورة”، مضيفا “هذا الإجراء المرفوض قد يكون سببا في ضرب الأمن المجتمعي الوطني بشكل عام وفي محافظتي نينوى وكركوك على وجه الخصوص إذا ما تمت إساءة استخدام تلك الأسلحة في نزاعات عرقية أو حزبية مستقبلا”. وشدّد في منشوره على أن يكون “هذا النوع من الأسلحة حصرا بيد الجيش العراقي الذي ندعو باستمرار إلى تعزيز قدراته وإمكانياته”.
وساندت الكثير من الشخصيات السنية والشيعية ما ذهب إليه زعيم حزب تقدّم. وقال علي تركي الجمالي، النائب عن كتلة صادقون النيابية الممثلة لميليشيا عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، إنّ البيشمركة حرس حدود وتسليحها بأسلحة ثقيلة يمثل خطرا على الجيش العراقي. ووجه الجمالي نقده لحكومة السوداني قائلا في تصريحات لوسائل إعلام محلية إن “تسليح البيشمركة بأسلحة تفوق قدرات الجيش العراقي تتحمل تبعاته الحكومة العراقية”.
وإمعانا في إدانة حكومة السوداني التي أصبح رئيسها موضع عدم رضا من قبل الخزعلي، أشار النائب إلى أنّ “هذه المدافع تم إرسالها منذ فترة طويلة وامتنعت كل الحكومات السابقة عن تمريرها ابتداء من حكومة العبادي وعادل عبدالمهدي وحتى الكاظمي”.
وأضاف قوله “جاء كتاب من مكتب رئيس الوزراء بضرورة استلام هذه المدافع من قبل وزارة الدفاع العراقية وإرسالها إلى موقع التاجي ومن ثم تسليمها إلى وزارة البيشمركة والتي تعتبر في الدستور العراقي حرس حدود للإقليم وليس من صلاحيتها ولا من ضمن تجهيزها أن تكون هناك مدافع تعمل بإمكانيات حديثة فنية عالية المستوى كون هذه المدافع من مواصفاتها أنها تعمل على الليزر والقصف في المناطق الجبلية وتعمل مع الطائرات المسيرة”.
وحذر من وجود خطر على الجيش العراقي قائلا “لدينا تجربة مريرة لاسيما في عام 2017 عندما قامت قوات البيشمركة بالاعتداء والتجاوز على الجيش والحشد الشعبي إلى أن صدر أمر بلجم جماح القوة المتمردة وحينها تم طردها إلى مناطقها في الإقليم”. كما طالب بأن يقوم البرلمان بمساءلة الحكومة العراقية حول قضية المدافع.
وساندت قوى سنية تلك المطالبة. وقال أنور العلواني القيادي في حزب تقدّم إن رئيس الوزراء مطالب بإيضاح بشأن دعم البيشمركة في هذا التوقيت، مضيفا قوله إننا “بحاجة إلى إيضاح من خلال خروج رئيس مجلس الوزراء أمام الشعب وتفسير ما يجري خلف الكواليس.. فالشعب لا يعرف ماذا يجري، وقد يكون هناك مخطط لحرب مرتقبة يعلم بها رئيس الوزراء وحكومة الإقليم”.
وأثار يوسف السبعاوي عضو مجلس النواب عن محافظة نينوى الهواجس بشأن أمن المحافظة بسبب تسليح البيشمركة بمدافع ثقيلة، معتبرا أن ذلك ينطوي على إخلال “بالتوازن المجتمعي وتقوية لأربيل على حساب المناطق المتنازع عليها في نينوى”.
لكن الاصطفافات السياسية إزاء مسألة المدافع الأميركية للبيشمركة بدت شديدة الوضوح عندما هاجم خصوم الحلبوسي السياسيون السنة موقفه من القضية، حيث دافع رعد الدهلكي رئيس تحالف العزم في ديالى عن البيشمركة ووصفها في بيان بأنّها قوة أمنية عراقية ساندة للجيش العراقي بنص الدستور، معتبرا أنّها “أثبتت بالتجربة حرصها على أمن العراق وشعبه بمختلف طوائفه وألوانه وساهمت في الحرب على تنظيم داعش وقدمت الشهداء، ولا مزايدة على ولائها للبلد”.
لكن أشدّ الردود على زعيم حزب تقدّم صدرت عن الحزب الديمقراطي الكردستاني حيث كتب القيادي في الحزب هوشيار زيباري على منصة إكس أنّ “موقف محمد الحلبوسي رئيس البرلمان السابق والمحروم قضائيا من ولاية جديدة، من استلام قوات بيشمركة الإقليم لجزء بسيط من أسلحة دفاعية من التحالف الدولي، يعكس البهلوانية الشعبوية الرخيصة، وعقلية مريضة لصعود سياسيي الصدفة”.
أما المتحدثة باسم مقر مسعود بارزاني خالدة خليل فكتبت على حسابها في منصة إكس أن “البيشمركة قوة منظمة، وليست قوة طائفية لتتم معاداتها والمطالبة بنزع سلاحها”، مضيفة “معاداة الأكراد أصبحت شعارا سياسيا للباحثين عن المناصب والمكتسبات حيث يلجؤون إلى ذلك في محاولة للوصول إلى غاياتهم”.
وهاجم النائب عن الحزب الديمقراطي محما خليل الحلبوسي قائلا إنّ موقفه “كشف عن طائفية مقيتة نابعة عن حقد ونزعة لإثارة الفتنة والتفرقة بين نسيج المنظومة الدفاعية العراقية”.
كما شكك في الدوافع وراء إثارة موضوع المدافع بقوله إن الحلبوسي “معروف باستعداده للقيام بأي شيء من أجل مصلحته الشخصية حتى لو كانت ضربا لأبناء جلدته”.