تصدّع معسكر الإسلام السياسي الشيعي العراقي يثير قلق إيران بشأن مستقبل نفوذها في العراق

اعتماد إيران على فريق واسع من السياسيين الشيعة وقادة الميليشيات المسلّحة لم يعد كافيا لضمان استمرار سيطرتها على العراق وقراره السياسي والاقتصادي والأمني. وفي ظل تشتّت ذلك الفريق واستشراء الصراعات بين قياداته، مع نشوء أوضاع متغيّرة تتميّز باتساع رقعة الغضب الشعبي من الأحزاب الدينية وتجربتها الكارثية في حكم البلد، فإن الأمر تطلّب من طهران البحث عن صيغ جديدة للحفاظ على حدّ أدنى من وحدة البيت السياسي الشيعي العراقي، استعدادا لاستحقاقات سياسية مفصلية قادمة.
بغداد - لا يبدو تيار الإسلام السياسي الشيعي، الذي قاد تجربة الحكم في العراق بعد سنة 2003 وتحكّم بسياسات الدولة العراقية وسيطر على مقدّراتها المادية، في أحسن حالاته. ليس فقط لأنه فشل في قيادة تلك التجربة وأضعف الدولة على كافة المستويات والصّعد فأصبح موضع غضب العراقيين، لاسيما شيعة البلاد الذين يعتبرهم قاعدته الشعبية وخزّانه البشري، بل أيضا بسبب ما تسرّب إلى صفوفه من انقسامات عميقة وخلافات حادّة جرّاء تناقض مصالح قياداته وتفرّق أهوائهم. وهي انقسامات لم توفّر ما كان يعتبر قلاعا حزبية حصينة مثل حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي.
ومنذ الانتفاضة العاتية التي شهدها العراق بداية من أكتوبر 2019 أصبحت الأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق مهدّدة أكثر من أي وقت مضى بتراجع مكانتها في السلطة، الأمر الذي ستترتّب عليه تغييرات تتجاوز الوضع الداخلي للعراق لتطال سياساته الخارجية وموقعه في الإقليم، وهو تحديدا مبعث قلق إيران على مكانة حلفائها من كبار قادة البيت السياسي الشيعي، ودافعها أيضا لمحاولة جمع شتاتهم، استعدادا للاستحقاق الانتخابي المهمّ الذي ينتظره العراق متمثّلا في الانتخابات النيابية المبكّرة المقرّرة لشهر يونيو القادم.
وعلى افتراض أن تلك الانتخابات ستجري بنزاهة وتنجو من التزوير الذي طبع مناسبات انتخابية سابقة آخرها انتخابات سنة 2018، فإنّ بروز شخصيات أقرب إلى خيار الشارع مثل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى جانب عدد من نشطاء الحراك الاحتجاجي البارزين، ومن دعاة الدولة المدنية، يمكن أن يشكّل تهديدا لا يستهان به لمكانة الأحزاب الشيعية العراقية وقياداتها المقرّبة أغلبها من إيران.
مصلحة مشتركة
بقدر ما تمثل وحدة البيت السياسي الشيعي العراقي مصلحة حيوية للقيادات الشيعية للبقاء في مركز القوة الذي يتيح لها مواصلة قيادة البلاد، تعتبر بالتوازي مع ذلك مطلبا ملحّا لطهران المهتمّة بالإبقاء على أتباعها في المواقع التي تتيح لهم الإمساك بمقاليد السلطة وتوجيه سياسات العراق وفق المصالح الإيرانية في ظلّ اشتداد الصراع على النفوذ في البلد وخصوصا بين إيران والولايات المتّحدة، إضافة إلى ظهور تركيا كلاعب آخر على الساحة العراقية كشف في أكثر من مناسبة عن طموحه للمنافسة على دور أكبر وحضور أقوى على الأرض العراقية.
تدهور سمعة الميليشيات لدى الشارع الشيعي بسبب قمعها لانتفاضة أكتوبر يجعل تعويل إيران عليها خيارا محفوفا بالمخاطر
ورغم أنّ إيران ما تزال تحتفظ بأداة قوية للهيمنة على المشهد العراقي متمثّلة بالميليشيات المسلّحة التابعة لها، إلاّ أنّها تدرك أنّ تلك الفصائل المسلّحة لا تستطيع تأمين نفوذها في العراق إلى ما لا نهاية، حيث تظل الحاجة قائمة لأحزاب متمكّنة من مفاصل السلطة ومتحكّمة في عملية صنع القرار وقادرة على ضبطها وتوجيهها بعيدا عما يمكن أن يتناقض مع المصلحة الإيرانية، ومن هنا تأتي الحاجة لإعادة ترميم أركان البيت السياسي الشيعي درءا لتراجع مكانة كبار رموزه وقادته وارتخاء قبضتهم على زمام السلطة.
غير أن عملية الترميم تلك تصطدم بعوائق وصعوبات تجعلها غير مضمونة النتائج، من بينها أنّ أغلب الوجوه السياسية الشيعية التي تعوّل عليها طهران وتثق فيها، تبدو غير قابلة لإعادة التدوير بعد أن استهلكها الفشل الذريع لتجربة الحكم التي قادتها تلك الوجوه نفسها في فترة ما بعد سقوط نظام حزب البعث على يد القوات الأميركية، وهو ما ينطبق على سبيل المثال على نوري المالكي زعيم حزب الدعوة الإسلامية، بينما تُظهر وجوه أخرى توجّهات وطموحات لا يمكن تحقيقها إلاّ على حساب قيادات شيعية أخرى، الأمر الذي ينسحب على زعيم التيار الصدري مقتدى الصّدر الذي صرّح علانية بأنّ هدف تياره من المشاركة في الانتخابات المبكرة هو الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان وتشكيل الحكومة القادمة، كما ينسحب بدرجة أقل على زعيم تيار الحكمة المنشقّ عن المجلس الأعلى الإسلامي عمّار الحكيم الذي يطمح إلى زعامة تتجاوز المكوّن الشيعي بحدّ ذاته وذلك عبر طرحه فكرة تشكيل تحالف “عابر للطوائف”.
وفي محاولة لتذليل تلك المصاعب مبكّرا قبل اقتراب موعد الانتخابات دشّنت إيران بالفعل محاولة دفع أطراف سياسية شيعية لتشكيل تحالف قادر على تحقيق نتائج جيّدة في تلك الانتخابات.
وبحسب مصادر سياسية مطّلعة تقوم المقاربة الانتخابية الإيرانية في العراق على تشكيل تحالف شيعي كبير إلى جانب دعم قوائم متوسطة وصغيرة أخرى، وذلك لتوفير خيارات متعددة قادرة على التعامل مع أي نتائج عامة يفرزها الاقتراع.
وتقول المصادر إن إيران ترى أن تحالفا بين زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي وزعيم منظمة بدر هادي العامري، قد يجد شيئا من النجاح خلال الانتخابات المقبلة.
ويمكن تصنيف المالكي والعامري كأبرز حلفاء إيران المخضرمين في المستوى السياسي، بعدما انتقلت طهران من مرحلة دعم الأحزاب التقليدية والرهان عليها، إلى الاعتماد على الميليشيات الشيعية المسلحة وزجها في المعترك السياسي.
وبرز هذا الخيار الإيراني بعد الحرب ضدّ تنظيم داعش في العراق بين سنتي 2014 و2017 وما أفرزته من تعاظم لدور للميليشيات التي اجتمع أغلبها في هيكل جامع عرف بالحشد الشعبي، وكان أداؤه الفاعل في تلك الحرب سببا في اكتسابه قدرا من الشعبية داخل شرائح شيعية رأت فيه صمّام أمان ضد خطر داعش الداهم آنذاك والذي تمكّن من غزو ثلث مساحة العراق، في ظل حالة من شبه الانهيار للقوات العراقية.
وجعلت هذه العوامل الميليشيات المرتبطة بإيران قابلة للاستثمار سياسيا، وهو ما تجسّد بالفعل من خلال مشاركتها في الانتخابات السابقة عن طريق ممثّل لها هو ائتلاف الفتح الذي تمكّن من حصد سبعة وأربعين من مقاعد برلمان سنة 2018، وكان بالفعل مفيدا لإيران في تمرير قانون مفصلي بالنسبة إليها وذي علاقة مباشرة بصراعها ضدّ الولايات المتّحدة، ويتمثّل في القانون الصادر عن مجلس النواب العراقي في يناير 2020 ويلزم حكومة بغداد بإخراج القوات الأجنبية، بما فيها القوات الأميركية، من البلاد.
رهان غير مضمون
سمعة الميليشيات ما لبثت أن تدهورت داخل الأوساط الشيعية ذاتها عندما انخرطت تلك التشكيلات المسلّحة بقوّة في قمع الحراك الاحتجاجي الذي تركز في مناطق الشيعة بوسط وجنوب العراق، ووجّهت أسلحتها إلى صدور المحتجّين وقتلت الكثيرين منهم في ساحات التظاهر والاعتصام، بينما لاحقت آخرين داخل أحيائهم السكنية وإلى أبواب منازلهم فاغتالت بعضهم واختطفت البعض الآخر وعذّبته ونكّلت به في محاولة لترهيب المشاركين في الانتفاضة التي زعزعت أركان نظام الأحزاب الدينية وهدّدته بالسقوط، ولم تكن عديمة التأثير عن الوضع السياسي عندما أفضت إلى سقوط حكومة عادل عبدالمهدي المحسوب ضمن معسكر الموالاة لإيران وجاءت بمصطفى الكاظمي غير المنتمي لذلك المعسكر، وإن كان سيظلّ محدود القدرات في تغيير الوضع، إلاّ إذا أسفرت الانتخابات القادمة عن ظهور كتلة برلمانية كبيرة ساندة له، وهو ما ستعمل الأحزاب والميليشيات الشيعية، ومن خلفها إيران على مقاومته ومنع حدوثه بشتّى الطرق.
وبسبب نفور الشارع العراقي من الميليشيات، ونقمته عليها أصبح الرهان عليها من قبل طهران كقوّة انتخابية في استعادة لتجربة الانتخابات الماضية رهانا محفوفا بالمخاطر ومهدّدا لمكانة معسكر إيران في العراق.
تدوير وجوه مستهلكة
لتجنّب مقامرة غير مضمونة العواقب تعتزم طهران إعادة تدوير بعض الوجوه السياسية الشيعية المضمونة من قبلها مثل نوري المالكي الذي لم ييأس من محاولة العودة إلى واجهة المشهد السياسي ولعب دور قيادي في حكم العراق منذ تمّت إزاحته من رئاسة الحكومة في 2014 بعد فترتين في المنصب كانتا كارثيّتين على الدولة العراقية بكل المقاييس.
ولا يعني لعبه ذلك الدور بالضرورة عودته إلى رئاسة الحكومة، وهو أمر أصبح بعيد المنال، بقدر ما يعني مشاركته بفعالية في إدارة خيوط اللعبة السياسية، بدءا من اختيار رئيس الوزراء وطاقمه الوزاري إذا سمحت بذلك النتائج الانتخابية التي سيحققها زعيم حزب الدعوة الإسلامية في الانتخابات القادمة وعدد المقاعد التي سيحصل عليها ائتلافه في البرلمان الذي سينتج عنها.
ويعتبر متابعون للشأن العراقي أنّ قدر المالكي أن “يقاتل” على دور ومكانة في المشهد السياسي العراقي حتّى الرمق الأخير لمعرفته، من جهة، بكثرة خصومه ومن يتحيّنون لحظة ضعف منه لمعاقبته على سوابق كثيرة ارتكبها ضدّهم، ولكونه سيكون، إذا ما تمّ فتح ملفات الفساد والمسؤولية عن إضعاف الدولة وهدر مقدّراتها وتفكيك قوّاتها المسلّحة، مطلوبا للقضاء في عدّة جرائم مشهودة من بينها هدر مئات المليارات من الدولارات خلال فترتي حكمه بين سنتي 2006 و2014، والمسؤولية المباشرة عن احتلال داعش لمساحات شاسعة من أرض العراق وما جرّه ذلك من مجازر ومآسي ستظل آثارها ماثلة لأجيال قادمة.
وبالرغم من تضرر شعبية المالكي بشدة خلال الأعوام الأخيرة وخسارته نحو ثلاثة أرباع وزنه البرلماني، إلاّ أنه ما يزال لاعبا مؤثرا قادرا على عقد الصفقات ونسج التحالفات المصلحية وحشد الدعم الانتخابي في أوساط اليمين الشيعي العراقي المؤيد لإيران.
أما هادي العامري الذي تسعى طهران لأن تجمعه مع المالكي في تحالف يكون نواة لاستقطاب طيف أوسع من السياسيين الشيعة، فيوفّر ميزة إضافية تتمثّل في كونه رجل سياسة كثير الترويج لخطاب التهدئة والحوار مع بقية السياسيين من داخل البيت الشيعي ومن خارجه، إلى جانب كونه رجل ميليشيات مخضرما خاض حرب الثماني سنوات إلى جانب إيران ضدّ بلده العراق، ويقود حاليا إحدى أقوى الفصائل الشيعية المسلّحة؛ ميليشيا بدر، وله كلمة مسموعة لدى الكثير من الفصائل الأخرى المنضوية ضمن الحشد الشعبي.
وتدرك طهران حجم الصعوبات التي سيواجهها حلفاؤها البارزون خلال الاستحقاق الانتخابي القادم في العراق، وتعمل تبعا لذلك على تنويع خياراتها ومن ذلك إمكانية دعمها لقوائم شيعية صغيرة ومتوسطة على غرار قائمة عصائب أهل الحقّ الممثلة للميليشيا التي تحمل نفس الاسم ويقودها قيس الخزعلي.
ومع ذلك تظل أبرز مشكلات معسكر الإسلام السياسي الشيعي في العراق ترهّله وسوء سمعة قادته المخضرمين ونفور الشارع منهم لوقوفه طيلة سنوات على زيف وعودهم وشعاراتهم وعلى النتائج السلبية لتجربتهم في الحكم وقيادة الدولة، بينما تخريج جيل سياسي شيعي عراقي جديد بالمواصفات التي تريدها إيران يبدو أمرا صعب المنال.