تصحر القلوب والمدن

أصبت بصدمة كبيرة لأن جارتي الإنجليزية المسنة سألتني لماذا لا ينطبق اسم تونس الخضراء على العاصمة؟ لما رأته فيها من شوارع خالية من الأشجار والنباتات والأزهار خلال رحلتها السياحية هذا العام.
أكدت جارتي أنها رأت مساحات جرداء أفقدت تونس أناقتها التي كانت ذائعة الصيت في ما مضى، ورأت مظاهر فوضى في الطرقات، مختلفة عن صورة تونس التي زارتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ولم يبق من تلك الصورة الجميلة التي تتذكرها إلا بضع شجرات قليلة متباعدة، لا يمكن أن تحمي المارة من أشعة الشمس الحارقة.
ووصف أحد أقاربي في تونس الحياة في الحي الذي يقطنه بأنها أقرب إلى الجحيم على الأرض، وتمنى لو تعجل الصين باختراع “المكيف المحمول المعجزة” كما وصفه، ويكون ثمنه معقولا، حتى يمكّن الفقراء من التغلب على درجات الحرارة اللاهبة، ويقومون بأعمالهم وأنشطتهم اليومية التي تتطلب الوقوف لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة.
على أية حال، يبدو أن اختراعا من هذا النوع قد أصبح قابلا للتحقيق في ظل تعدد الأفكار المبدعة لخبراء التكنولوجيا، وتبنيها بشكل ما في أماكن مختلفة من العالم، لكنه على الأرجح لن يحل جميع المشاكل الحالية التي تتسب فيها درجات الحرارة القياسية خلال الصيف، وتهدد صحة الناس ورفاهيتهم وأداءهم في العمل.
غير أن الحل الأقل تكلفة والنافذ المفعول على مر العصور، هو جلب الطبيعة إلى المدن، وتخصيص مساحات للحدائق، ووضع نباتاتٍ داخل المنازل وفي أماكن العمل، واستبدال بعض البنايات المتلاصقة والشاهقة بمساحات خضراء قد تجعل الحياة في المدن أقل إرهاقا، وتحول دون تراكم التوترات والإجهاد على المدى الطويل، وهو ما قد يخلّف بشكلٍ ما آثاراً إيجابية طويلة الأمد.
لو نظرنا إلى طبيعة حياة الناس اليوم داخل معظم المدن العربية، وكيف أصبحوا يعيشون داخل علب من الطابوق والإسمنت، ويقضون أكثر من تسعين في المئة من وقتهم بين جدران لا توجد فيها أي نباتات، فإنه من الصعب أحيانا، مجادلة الرأي القائل إن تلك الحياة القاحلة قد طمست هوية المدن العربية وبدأ تاريخها العريق يتوارى خلف الفوضى الاجتماعية وثرثرة السياسيين، وأضرت بالصحة الجسدية والعقلية لسكانها، وعلى الطريقة التي يتفاعلون بها مع بعضهم، ولبدت مشاعرهم وأحاسيسهم.
العيش في مدن خضراء يساعد الناس على تجديد عواطفهم بشكل جيد ويحسن مزاجهم، ويدفعهم إلى التصرف المتزن واتخاذ قرارات أكثر صوابا، وبناء عليه تتحسن جودة حياتهم وعلاقاتهم، لكن بعد أن انقطعت صلة الكثيرين بالطبيعة التي تمدهم بالهواء العليل والترفيه، كثرت الضغوط النفسية واستشرى العنف الحضري الذي تمارسه فئات اجتماعية تعيش الحرمان الاجتماعي.
بطبيعة الحال، لا يقتصر الأمر على “تونس الخضراء” وإنما التصحر يكاد يكون سمة أغلب بلداننا العربية، يكفي أن نقرأ أخبار الغبار والعطش في العراق وسوريا ولبنان… في بلدان كانت في يوم ما تسمى بأسماء أنهارها، لندرك النتائج المخيفة لأزمة التصحر، وزحف الجدران على الأشجار.