"تسجيلات يوناذم هرمز" رواية تعتمد "الكاسات" في قص حكاياتها

عمان - تندرج رواية “تسجيلات يوناذم هرمز.. ابن قرية عراقية” للكاتب بولص آدم تحت أكثر من تصنيف؛ فهل هي رواية تاريخية، أم رواية توثيقية؟ وحده القارئ يمكنه التوصل إلى تصنيف الرواية من خلال رحلته مع صفحاتها.
تضم الرواية عددا من التسجيلات على لسان البطل، كل منها يشتمل على عدد من العناوين الفرعية، إذ تقوم الرواية في بنائها على هذه التسجيلات التي يأخذ كل منها رقما وكل منها يروي جزءا من الحكاية، عبر قصص متقاطعة ومتوازية.
وتبدأ الرواية، الصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون”، التي اختير لغلافها صورة للبطل من تصوير ريتشارد، باقتباس لبورخيس يقول فيه “نحن بالفعل النسيان الذي سنكون/ الغبار الأوَّلي الذي يتجاهلنا”.
ويورد آدم ما يمكن تسميته بـ”شرارة البدء” على لسان بطل الرواية يوناذم هرمز قائلا “لا تستغرب عزيزي بولص آدم. لديّ الكثير للبوح به، يبقى الحديث عن قريتي ‘ديري’ موضوعي المفضّل. أتحدى أن يكون هناك إنسان يعرف ‘ديري’ والمنطقة أكثر مني، أنا لا أبالغ، أنا موسوعة”.
إن هذا التفاعل المباشر بين الشخصية والكاتب نفسه يضعنا أمام إيهام كامل بالحقيقة، ومن هنا يأتي التداخل بين الحقيقة والخيال الذي برع الروائي في بنائه بشكل محكم، ليدفع بالقارئ إلى الإصغاء إلى كل تسجيل كاسات معه.
ويضفر الكاتب أحداث الرواية التي يرويها البطل في التسجيل (الكاسيت) الرابع فيقول “صديقه الشرطي بريمو، عاد من واجب في قرية بعيدة، صرعته السكتة القلبية وهو على ظهر بغلته، مال جذعه على عنقها، ورأسه تدلَّى عند عينيها، أوصلته حتى باب مركز الشرطة. أنزلوا بريمو المُتوفَّى والبغلة تشم رأسه، ثم اتجهت إلى أقرب حائط وبدأت بضرب رأسها به، والكل لا يستطيع الاقتراب منها، تضرب رأسها بالحائط الصخري مهتاجة ترفس الهواء، ظلت تضرب رأسها بكل ما أوتيت به من قوة حتى لفظت أنفاسها الأخيرة حزنا على بريمو.. ومرقس نرسي حماه قد حضر هذه الفجيعة، ابنته شالم تعيش اليوم في أريزونا”.
وفي ختام الكاسيت الرابع نفسه يقول بولص آدم على لسان يوناذم هرمز “لن تنسى أمي مدى الحياة، منظر سقوط الأُم على المهد، لكأنها ترغب باحتضان ابنتها للمرة الأخيرة، لن تنسى العويل المكبوت خوفا من أن يكون مسموعا، لن تنسى المهد الذي انقلب ودم الأُم امتزج بدم الطفلة الجريحة والقماط الأبيض قد احمرَّ ووجه الطفلة في التراب”.
ويضيف “قال أبي: مرَّغ الإنجليز والحكومة، اسمنا وشرفنا في الوحل والدماء، ابقي يا مريم هنا وحافظي على الأطفال، سأعود مع لاجين وغورييل إلى المخفر في عين نوني. عند وصولهم كانت برقية بالانتظار”.
رواية بولص آدم تحتمل أكثر من تصنيف، فهي رواية تاريخية وتوثيقية تحكي قصة جيل عراقي ملاحق
ويصف بولص آدم مشهدا من أهم المشاهد التي انبنى عليها الكثير من الأحداث التالية في الكاسيت السادس فيقول “الكل في القرية يسمعون الصرخات، كل الأحداث كانت محفورة بصرخاتها في ذاكرتهم، ويحاولون أن يصلوا في الوقت المناسب من كل مكان ورؤية كل شيء.. طوابير الهارعين تتحرَّك من مختلف الجهات، يجب الحضور للمساعدة، رغم عودتهم من حقولهم مُتعبين. في لحظة كهذه، لا يوجد وقت للجلوس بلا مبالاة، فذلك عار في ساعة الجريمة ذلك المساء”.
وفي الكاسيت الثاني عشر يقول آدم حول رحلة كفاح يوناذم هرمز “بدأت أدرك قيمة النصائح وتراكم الخبرة العملية، من خلال نجاحي في البزنس، ومنحت بدوري ما تعلَّمته لغيري بمرونة. كل من الشاعر نينوس نيراري، إيوان كوركيس، يوسب رشو وجسمان جاسم، ومن خلال إذاعتنا في شيكاغو، حاوروني على مدى عشرين حلقة خاصة بالعمل. عوامل النجاح، أسباب الإخفاق. شجَّعت الشباب كثيرا على الدخول في البزنس وعدم التردُّد أمام المجازفة. أعلم أن الكثيرين منهم لم يلقوا تشجيعا من عوائلهم”.
وفي الكاسيت السادس عشر يتحدث عن القصف الثاني لديري (مسقط رأس البطل)، فيقول آدم “بعد أن لجأنا إلى قرية كوماني ثم إلى كهوف على نهر صبنا، أعقبَ قصف ديري، بقوة تمشيط من الجتة الموالية للحكومة، منهم من دخل إلى تلك الخرائب، وهو تجاوز للأوامر، وأخذوا كل ما اختاروه نافعا ليسرقوه، حتى الشبابيك وجذوع شجر الحور التي تدعم سقوف البيوت، حملوها على دواب ونقلوها معهم، ذلك الجهاز الذي أهداني إياه واحد من زوار ديري، تجمع هؤلاء وتبادلوا النظر إلى السلايدات وأعجبهم ما يشاهدونه من معالم ومناظر أجنبية وأخذوها معهم، الجهاز البسيط الأسود إياه كنت أسميه سينما، وكان مما أفتخر به بين أصدقاء طفولتي”.
ولنا أن نلاحظ هنا هذا التداخل بين الشخصية وكاتبها وبين الأحداث الحقيقية والخيال فيما يشبه التأريخ ولكنه ليس تأريخا كامل الأركان.
ومن الجدير بالذكر أن بولص آدم أديب وفنان سينمائي عراقي، يكتب الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدّا والنقد. وينقش وينحت على الرخام والمرمر. خريج أكاديمية الفنون الجميلة – جامعة بغداد. اختصاص سينما، أخرج عدة أفلام قصيرة ومثَّل في العديد من المسرحيات. درس الفلسفة وتاريخ الفن في النمسا. صدر له كتاب “ضراوة الحياة اللامتوقعة”، القاهرة، 2010، و”اللون يؤدي إليه”، بغداد، 2013، و”باصات أبو غريب”، دمشق، 2020، و”نينا تغني بياف”، الأردن، 2024.