تزايد حالات انتحار الأطفال يحيّر التونسيين: هشاشة نفسية أم ضغوط حقيقية

يؤكد خبراء علم النفس والاجتماع أن هناك العديد من العوامل الّتي يجب الاشتغال عليها للحد من ظاهرة انتحار الأطفال وأبرزها دور الأسرة والوالدين في الحدّ من جنوح الأبناء ومراقبة تصرّفاتهم وتأمين تنشئة اجتماعية سليمة لهم، لافتين إلى دور المؤسّسات الإعلامية في انتقاء مادّة تخلو من مظاهر العنف. ويشير الخبراء إلى أن ظاهرة انتحار الأطفال تعكس أزمة اجتماعية واقتصادية داخل الأسر.
تونس - لم يكن من السهل على فتاة الـ17 عاما أن تضع حدا لحياتها رغم أن دافع الانتحار يبدو للوهلة الأولى بسيطا، بل حتى تافها.
ففي التاسع عشر من سبتمبر الجاري أعلنت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن أنّها تلقّت إشعارًا ورد على مكتب مندوب حماية الطفولة بتونس مفاده “انتحار تلميذة تبلغ من العمر 17 سنة في ظروف مسترابة”.
وقالت الوزارة في بلاغ لها إن انتحار التلميذة تم في “ظروف مسترابة” بعد تعرضّها إلى الاعتداء اللفظي والإهانة والصفع من قبل أم صديقتها التي رافقتهما إلى مدينة الألعاب ومن ثم نشب خصام بينهما.
وتأتي حادثة انتحار هذه الفتاة بعد فاجعة انتحار “فتاة البكالوريا” بمحافظة الكاف شمال غرب البلاد لما فشلت في النجاح في المناظرة وقررت إنهاء حياتها بتناول جرعة من دواء القلب المخصص لوالدتها. وكانت الفتاة ذات أخلاق طيبة وسلوك متميز بشهادة جل أساتذتها، لكنها كانت ذات نفسية هشة، حيث لم تتحمل إهانة أسرتها لها، فنفذت عملية الانتحار بعد يومين من صدور النتيجة.
وليست هذه الحوادث معزولة عن سابقاتها، ففي مايو الماضي انتحر طفل في منطقة المزونة بمحافظة سيدي بوزيد (وسط) بعد نحو شهر من انتحار قاصر عمره 17 سنةً داخل أسوار أحد المعاهد الثانوية في محافظة القيروان.
ولدى بحث حارس المعهد عن الجثة بعد اتصال أهل الضحية به تفطّن إلى وجود جثة التلميذ الذي كان يدرس في السنة الثانية آداب متدلّية في مستودع تابع للمعهد يخصَّص لتجميع التجهيزات والمعدات التي لم تعد صالحةً للاستعمال.
وبعد التحرّي، تبيّن أن التلميذ كتب قبل انتحاره بأيام قليلة تدوينةً على صفحته في فيسبوك قال فيها “رغبتي في الابتعاد عن البشر تزداد يوماً بعد يوم”، وهو ما عُدّ نيّةً مسبقةً لديه للانتحار.
ولا تعكس هذه الحوادث تفاقم ظاهرة الانتحار في صفوف الأطفال بتونس فحسب، بل تعكس أيضا مؤشرا خطيرا وهو تخلي الأسر عن أطفالها وسط أزمة اجتماعية خانقة تعيشها البلاد منذ ثورة يناير 2011، وكذلك غلق باب الحوار بين الطرفين، وأكثر من ذلك تصدير الأزمات التي تعيشها الأسر إلى أبنائها عن غير قصد مما يزيد من مشاكلهم فيقررون وضع حد لحياتهم، وفق ما أكده الخبراء.
وقال أحمد الأبيض الدكتور المختص في علم النفس لـ”العرب” إنه بناء على الإحصائيات الصادرة عن وزارات الإشراف يتبين أن حالات الانتحار في صفوف الأطفال والمراهقين تتزايد في المناطق الفقيرة غير المعنية بالتنمية مثل منطقة العلا من محافظة القيروان (وسط)، وهو ما يبرز أن هناك أرضية اقتصادية واجتماعية وراء هذه الحوادث، مشيرا إلى أن الأسر الفقيرة تنقل مناخ البؤس لأطفالها الذين هم عادة لا يعبؤون بمشاكل الكبار، لكن مع تكرر الأزمات ونشوب الخصومات بين الأولياء بسبب عدم قدرتهم على توفير مستلزمات أطفالهم، مثلا، يتم الزج بهم داخل المشاكل ما يدفع بهؤلاء إلى التخلي عن طفولتهم تدريجيا والانصهار في المشاكل وتفضيل الانسحاب بمغادرة الحياة مرة واحدة.
بدوره يؤكد الدكتور الطيب الطويلي المختص في علم الاجتماع أن انتحار الأطفال يؤشر على مدى عمق الأزمات الاجتماعية والتربوية والتعليمية التي يعيشها المجتمع، فمن المفترض أن تكون تصورات الطفل وتمثلاته لحاضره ومستقبله ورديّة مع ألعابه أو كتبه، ومهما كانت وضعية الطفل المادية والاجتماعية صعبة فمن المفترض أن براءة الطفولة وانطلاقها يجعلانه قابلا بظروف عيشه آملا في مستقبل أفضل، ولهذا كان الطفل التونسي في الستينات والسبعينات والثمانينات يعيش شظف العيش والفشل المدرسي والعنف المادي واللفظي من المحيط العائلي والمدرسي دون أن يكون هناك ميل أو تفكير في الانتحار.
ويتساءل الطويلي عن السبب الذي يجعل الطفل يتخذ من الانتحار أو محاولات الانتحار نمطا للتفكير أو الاحتجاج.
حالات الانتحار في صفوف الأطفال تتزايد في المناطق الفقيرة غير المعنية بالتنمية مثل منطقة "العلا" من محافظة القيروان
وقال الطويلي “بعد الثورة أصبح هناك توجه لتسليط الضوء بشكل كبير على الظواهر الإجرامية في وسائل الإعلام، خاصةً التلفزيون، والتي كانت سابقاً مسكوتاً عنها في إطار سعي الدولة لتحجيم سلبيات المجتمع وتضخيم إيجابياته. فالانتحار أصبح فعلاً عادياً في الإعلام التونسي تم تبسيطه وتسطيحه، خاصةً في المسلسلات التونسية التي أصبحت تصوّر المجرم كبطل أو ضحية، وتتعمد تمرير مشاهد للانتحار في سياق رومانسي حتى يبدو وكأنه حدث يستحق التجربة”.
وأضاف أن “هذا التوجه لم يأتِ عرضاً أو في عمل وحيد بل أصبح توجّهاً وخياراً لدى بعض القنوات لجلب أكبر عدد من المشاهدين، وطبعاً في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي يصير الأطفال عرضةً لهذه المشاهد التي لا يفهمون جوهرها في الغالب، ويحاول بعضهم محاكاتها في أحيان كثيرة معتقدين أنهم قد يعودون إلى الحياة بعد الانتحار، أو أن العملية قد تفشل وتغير نظرة الآخرين إلى الطفل ومحيطه”.
ويؤيده الأبيض في الرأي، مشيرا إلى أن المنتحرين لا يريدون الانتحار فعليا وإنما لفت الانتباه والتنبيه إلى أنهم يواجهون مشاكل لا يقدرون على حلها لوحدهم.
وتكون حالات الانتحار معدية بحسب الطويلي الذي قال إن انتحار طفل هو فعل مُعد، فعندما يسمع الطفل بحالة انتحار من هو من ندّه تصبح هذه الفكرة لديه خيارا مفترضا للانتقام أو الاحتجاج أو للتخلص من مشاكل أو أفكار تعظم في نفسه ولا يجد لها حلّا.
وتابع قائلا “عندما يستمع إلى تفاعل الإعلام مع حالات الانتحار وتعاطفه مع وضعية الطفل الهشة يزداد تفكيره في الانتحار كوسيلة احتجاجية. ولهذا فإن تداعيات انتحار طفل واحد تتمثل في محاولات انتحار عدد آخر من الأطفال. وانتحار الطفل هو فعل مسرحي يحاول من خلاله جلب انتباه الآخرين إليه وإلى مشكلاته، في مجتمع ينخفض فيه منسوب الاندماج والتضامن الاجتماعي، ويفكر فيه الطفل بطريقة تتسم بالفردانية والأنانية المفرطة كما يقول دوركايم. وتجعله يعتبر محاولة الانتحار طريقة ممسرحة لخلاصه الذاتي ولخلاص عائلته من المشكلات المادية والضغوطات اليومية التي تشرّكه العائلة فيها وتجعله يفكّر فيها ليكوّن لنفسه ضغوطات أكبر من تفكيره”.
من جانبه دعا رئيس جمعية أولياء التلاميذ رضا الزهروني إلى ضرورة الانتباه إلى مثل هذه الحوادث الخطيرة وفتح تحقيقات معمقة حولها لأن الضحية برأيه قد لا يكون اختار مكان انتحاره عبثاً بل ربما لأسباب تخص الوسط المدرسيّ. ويوضح رأيه بالقول “إن اختيار الوسط المدرسي للقيام بهذه الخطوة مردّه أن الصدمة متأتية من المؤسسة التربوية، سواء تعلّق الأمر بالنتائج المدرسية، أو بمشكلة مع أحد أو بعض زملائه أو أساتذته. زد على ذلك، أن هناك بعض السلوكيات الخطيرة سواء بين الأطفال، وأحياناً تكون صادرةً عن المدرِّس ويتم التعامل معها باستخفاف وأبرزها التنمر، في حين أنها قد تقود التلاميذ إلى الانتحار، فضلاً عن الخوف من الإخفاق الدراسي. وهنا يجب أن تكون العائلة حاضرةً لتربية أبنائها على تجنّب التنمر على الآخرين، وتوعيتهم بخطر هذا السلوك من جهة، وأن تلتزم الكوادر التربوية أيضاً بعدم الانزلاق في هذا السلوك وتوعية الأطفال حول مخاطره، ومن جهة أخرى تخفف الضغوط حول النتائج الدراسية”.
وكانت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن آمال بالحاج موسى قد أعلنت في مايو الماضي أن الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2023 شهدت 8 حالات انتحار في صفوف الأطفال، بمعدل حالتين شهرياً ونحو 102 محاولة انتحار، 80 في المئة منها في صفوف الإناث، والعدد الآن أصبح 10 بعد انتحار طفلين في المزونة والقيروان.
وفي العام الماضي، كشفت أرقام حديثة لوزارة المرأة والأسرة التونسية، عن تزايد الإشعارات بمحاولات انتحار الأطفال بأكثر من 38 في المئة خلال الأشهر الـ11 من عام 2022 مقارنةً بعام 2021، إذ حاول 269 طفلاً وضع حد لحياتهم، بينما انتحر 21 آخرون فعلاً.
وفي عام 2017، أحصى المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 4859 عملية أو محاولة انتحار خلال ثلاث سنوات في أنحاء البلاد، وكشف أن عدد الأطفال هو الأكبر في هذه القائمة.
أمّا إحصاء عام 2018، فرصد 281 حالة ومحاولة انتحار نفّذ الذكور غالبيتها، وبينها 45 حالةً لأطفال دون الـ15 من العمر. وخلال الأشهر الستة الأولى من العام التالي (2019) أعلن المنتدى عن انتحار 24 طفلاً تقلّ أعمارهم عن 15 سنةً.
كما أفادت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في بيان أصدرته في السابع من يونيو الماضي بأن المكاتب الجهوية لمندوبي حماية الطفولة تلقت خلال الفترة الممتدة بين 25 أبريل و25 مايو الماضيين، 2540 إشعاراً حول تهديد مصلحة الطفل الفضلى.
ومن بين حالات التهديد، تم تسجيل 679 حالة تقصير بيّن ومتواصل في التربية والرعاية، و782 حالةً من اعتياد سوء المعاملة، و162 حالة إهمال وتشرد، و68 حالة فقدان سند عائلي. وبلغت حالات الاستغلال الجنسي، حسب البيان نفسه، 196 حالةً، و18 حالة استغلال في الإجرام المنظم، و33 حالةً من الاستغلال الاقتصادي والتعريض للتسول، و602 حالة عجز عن الإحاطة والتربية.
ويرجح المتحدث الرسمي باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أن يكون عدد محاولات وحالات الانتحار المنفذة أكبر مما تعلنه السلطات أو المجتمع المدني، لأن العائلات لا تصرح بمحاولات انتحار أبنائها، لاسيما الأطفال، لأنها تخشى المساءلة القانونية والوصم الاجتماعي.
وقال رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل معز الشريف إن حالة من الإحباط تتزايد في أوساط الأطفال، منذ سنين، نتيجة تخلي المجتمع عنهم في غمرة الأزمات المتعددة التي تعيشها تونس منذ أكثر من عقد.
ورد الشريف ذلك إلى ما وصفه بتعطّل آليات الحوار على مستوى كل الفاعلين في ما يخص الطفولة وذلك في ضوء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ضاعفتها أزمة وباء كورونا الأخيرة، وفق قوله.
وأوضح الشريف أيضا أن الأسرة التونسية التي أصبحت في مواجهة تلك الأزمات “ضاق صدرها ولم تعد مستعدة للاستماع إلى أطفالها، ومن ثم أغلقت في وجوههم كل قنوات الحوار”.
وتابع “كذلك الشأن في المؤسسات التربوية وكل المجتمع، فأي طفل يريد إبداء رأيه يُعامل وكأنه معتد على الأصول والقواعد، وهو ما زاد من عزلة كثيرين منهم”.

كما انتقد الشريف لامبالاة السلطات إزاء الأطفال الناجين من محاولات الانتحار، إذ أكّد غياب المتابعة النفسية لهؤلاء الأطفال من طرف مندوبية حماية الطفل، وغياب أي مجهود من أجل معرفة أسباب محاولات الأطفال وضع حد لحياتهم، بهدف إيجاد علاجات وحلول. وهو يرى أن هذه السياسة الخاطئة في التعاطي مع هذه الحوادث الخطيرة هي التي أدت إلى تفاقمها وارتفاع أعداد الأطفال المنتحرين أو من حاولوا الانتحار لتصبح ظاهرةً غاية في الخطورة، على حد تعبيره.
وتوجد العديد من العوامل الّتي يجب الاشتغال عليها للحد من هذه الظاهرة، وأبرزها دور الأسرة والوالدين في الحدّ من جنوح الأبناء ومراقبة تصرّفاتهم وتأمين تنشئة اجتماعية سليمة بعيدة عن العنف، وأيضا دور المؤسّسات الإعلامية الّتي عليها انتقاء المادّة الّتي تبثّها والّتي أصبحت تميل إلى إنتاج العنف من خلال الخطاب الموجّه في بعض القنوات والّذي يحتوي على عنف مباشر أو ضمنيّ وبمختلف الأشكال؛ العنف الجسدي أو اللّفظي أو الرّمزي أو الإيحائي، وفق الطويلي.
وقال الطويلي “كما يجب اعتماد طرق بيداغوجية متطورة تمكن الأطفال من التعبير عمّا يختلج في أذهانهم من أفكار ويعتمل في نفوسهم من مشاعر، وتوجد في هذا الإطار بعض التجارب الرائدة مثل ورشات الفلسفة مع الأطفال، أو ورشات الكتابة والمسرح وكل الأنشطة الفنية والرياضية التي تبني شخصية الطفل وتحميه من الهشاشة النفسية التي تدفعه أحيانا إلى سلوكيات مؤذية وخطيرة”.