ترند اجتماعي يغلق ترندا سياسيا في مصر

ينشغل الرأي العام في مصر ببعض الأحداث المثيرة للجدل على شبكات التواصل الاجتماعي التي تبدو مفتعلة بشكل واضح، لكنها تصب في صالح الحكومة للتخفيف عنها ومنحها فرصة للتنفيس السياسي ومحاولة إعادة ترتيب أوراقها مرة أخرى.
القاهرة - قدّمت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر هدايا مجانية للحكومة الجديدة من خلال شغل الناس وإلهائهم بقضايا رفعت الضغوط الشعبية عنها، وهي في ذروة احتدام الغضب من تراكم أزمات اقتصادية انعكست سلبا على حياة المواطنين.
وبينما كانت تواجه الحكومة الجديدة، التي تشكّلت قبل أيام، ضغوطات تفوق قدرتها على التحمل السياسي، وصلت حد التشكيك فيها والمطالبة بسحب شرعيتها قبل أن تبدأ عملها، استطاعت شبكات التواصل تخفيف الضغوط عن كاهلها، ومنحها فرصة للتنفس السياسي ومحاولة إعادة ترتيب أوراقها مرة أخرى.
واختفى الحديث بشكل كبير ولافت عن أزمات كانت تمثل منغصا سياسيا للحكومة ولا تستطيع ترويض غضب المصريين حوله، بينها أزمة تخفيف أحمال الكهرباء، وهي مشكلة كافحت الحكومة فيها لتهدئة الناس على مدار شهور مضت.
وجاءت أزمة الاستعانة بوزير من خلفية استثمارية لحقيبة التربية والتعليم لتزيد الغضب ضد الحكومة والتشكيك في توجهها نحو خصخصة التعليم، بالتوازي مع الطعن في الشهادة الجامعية للوزير، وسط مطالبات بإقالته أو دفعه إلى الاستقالة سريعا.
وبشكل مفاجئ، وبلا مقدمات، احتل الصخب حول قضايا أخرى بعضها اجتماعية وأخرى رياضية وفنية، محور الحديث لدى المصريين على شبكات التواصل، ووسائل إعلام تابعة للحكومة، وخفت الاهتمام بأي قضية لها جذور سياسية.
وكانت البداية من وفاة اللاعب الشاب أحمد رفعت الذي أثيرت الكثير من الشكوك حول الضغوط النفسية التي تعرض لها قبل وفاته من شخصيات فاعلة في الوسط الرياضي، ما بين مسؤولين وإعلاميين، وتفاعل الناس مع القضية بشكل غير محدود.
وتحركت وزارة الرياضة لفتح تحقيقات موسعة حول الواقعة وأحالتها إلى النيابة العامة مع توالي الضغوط الشعبية لكشف الحقيقة كاملة، وهو ما قاد إلى نسيان أزمة كبرى مرتبطة بوزير التعليم، مقابل التركيز على وفاة اللاعب.
وطفت على السطح أزمة أخرى تتعلق بامتحان مادة الكيمياء في الثانوية العامة (البكالوريا) بعد أن خرج معلمون مشاهير وقالوا إن توقعاتهم جاءت نصا في الامتحان، ما أثار شكوكا حول تسريب الأسئلة مسبقا، وهي ادعاءات ثبت زيفها.
وعاد الجدل حول المطربة شيرين عبدالوهاب وحياتها الشخصية بعد أن خرجت لتكشف للرأي العام عن تعرضها للضرب المبرح على يد زوجها السابق حسام حبيب، رغم علاقة الحب الممتدة بينهما، وهي القضية التي نالت اهتماما واسعا أيضا.
وما لبث المصريون أن يبحثوا وراء ملابسات الاعتداء على شيرين حتى انتشر فيديو للفنان الشهير محمد رمضان وهو يعتدي على شاب في إحدى القرى السياحية بالساحل الشمالي على البحر المتوسط، ثم قام الشاب بضرب رمضان ليرد اعتباره بالصورة.
وقادت كل هذه الوقائع خلال فترة وجيزة إلى منح الحكومة فرصة ترتيب أوراقها بعد أن توقف الحديث حولها، وصمت كثيرون عن أزمات الغلاء وانقطاع الكهرباء والظروف المعيشية الصعبة والشهادة التي قيل إنها مزيفة لوزير التعليم الجديد.
واعتاد مواطنون وقت الأزمات الاقتصادية والسياسية المحتدمة أن تظهر على الساحة قضية أو مجموعة قضايا مثيرة للجدل، أو تمرير خبر لافت وغريب، ما يراه البعض خطة لإلهاء الشارع بعيدا أزماته والتخفيف عن الحكومة ولو لبعض الوقت.
وأصبح من السهل في مصر أن يتسبب “ترند اجتماعي في غلق ترند سياسي”، حيث لا يجيد الناس الاستمرار في النبش خلف قضية مرتبطة بصميم حياتهم لفترة طويلة، بقدر ما يكون من السهل استقطابهم لجدل آخر، لا هو سياسي ولا اقتصادي.
وثمة شريحة أكثر وعيا وفهما لما يدور في الكواليس، لا تنجذب بسهولة خلف “الترندات” التي تظهر وقت الأزمات، ويتعاملون معها باعتبارها وسيلة مثالية للإلهاء عن الواقعين السياسي والاقتصادي كي لا تعيش الحكومة ضغوطا طوال الوقت.
ويوجد تعبير شعبي دارج في مصر عنوانه “بص العصفورة”، وهي عبارة تستحضرها فئة واعية عندما يُثار جدل مفاجئ حول أزمة سياسية أو اقتصادية تحمل ورطة للحكومة، ويتم اختراع قضية إنسانية أو دينية لجذب الناس إليها عبر المنصات.
وأمام انخفاض منسوب الوعي السياسي عند شريحة كبيرة في المجتمع المصري في ظل ارتفاع معدلات الأمية، يصبح من السهل إلهاء الناس وصرفهم عن قضاياهم الحياتية، والتي تمس معيشتهم أو حقوقهم أو مطالبهم أو الواقع السياسي في بلدهم.
وغالبا ما تكون سياسة الإلهاء مرتبطة بأزمة كبرى أو قرار صادم، لكن تختلف طريقة صناعة “الترند” أو هوية مصدره، فقد تكون وسيلة إعلامية شهيرة أو شخصية عامة، أو حسابات لبعض الأشخاص المعروفين، ثم تتحول فجأة إلى قضية رأي عام.
انزلاق الإعلام إلى فوضى الشبكات الاجتماعية يغذي الإلهاء المجتمعي وهذا خطر، لأن تزييف الوعي أو تجهيل الناس يتسبب في جعلهم مغيبين عن التحديات
ويرى متابعون أن مواقع التواصل الاجتماعي التي طالما مثّلت للحكومة أكبر أحزاب المعارضة، وتكاد تكون السلطة الرقيبة على سياساتها وتوجهاتها، بما يشكل لها منغصات، لكنها تستفيد منها عندما تصبح أداة سهلة لشغل الناس عنها وقت الأزمات.
وقال سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة إن سياسة الإلهاء عبر شبكات التواصل تنجح كلما كان المنسوب السياسي والثقافي منخفضا، ولو كانت الأغلبية واعية يصعب استدراجها وترفض أن تكون فريسة سهلة.
وأضاف لـ”العرب” أن انزلاق الإعلام إلى فوضى الشبكات الاجتماعية يغذي الإلهاء المجتمعي وهذا خطر، لأن تزييف الوعي أو تجهيل الناس يتسبب في جعلهم مغيبين عن التحديات، ومن الخطأ العام سجن المجتمع ضمن وعي محدد بجدل شبه يومي.
وما يلفت الانتباه أن الحكومة تتوارى كثيرا عن الدخول في الجدل الإلكتروني المرتبط بأي قضية خلافية، وتترك الناس يتجاذبون وينقسمون في الآراء، بعيدا عنها، لأن الخلاف لا يمسها أو يقترب منها مباشرة، لكنها لا تمانع انخراط إعلامها في الجدل.
وتبدو بعض الأحداث المثيرة للجدل على شبكات التواصل الاجتماعي مفتعلة بشكل واضح، وقد تكون بعض الجهات قامت بتغذية هذا الجدل للتخفيف عن الحكومة، لكن مناصرين للنظام يستبعدون ذلك ويتهمون خصوم السلطة بالوقوف خلفها.
ويبرر أصحاب وجهة النظر الأولى رؤيتهم بأن سياسة الإلهاء تتزامن مع أزمات معقدة بالنسبة للحكومة، ويتصاعد الجدل فجأة، لكن الفريق الآخر يعتقد أنها محاولة من المعارضة لصرف النظر عن الإنجازات التي تحققت والخطط الطموحة للحكومة.
وبقطع النظر عن صحة ما يسوّق له كل فريق، تظل الحكومة أكبر جهة مستفيدة من احتدام النقاش على الشبكات الاجتماعية حول قضايا هامشية، وسطحية أحيانا، حيث يمنحها ذلك فرصة لتمرير سياسات وقرارات تريدها، وسيكون من الصعوبة تمريرها بهدوء إذا لم ينشغل المصريون عنها بقضايا فنية ورياضية.